الإثنين, 6 أكتوبر 2025 02:51 PM

من "قمة فرجينيا" إلى كوبنهاغن: هل تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها وتهمّش حلفاءها؟

من "قمة فرجينيا" إلى كوبنهاغن: هل تعيد واشنطن ترتيب أولوياتها وتهمّش حلفاءها؟

قبل شهر تقريبًا، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يقضي بتغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، ليعود الاسم إلى ما كان عليه حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

التغيير الأول كان في عام 1947 عندما اعتمد الكونغرس اسم "وزارة الدفاع" بدلًا من "الحرب"، على اعتبار أن الولايات المتحدة في موقع الدفاع عن مصالحها وعن العالم الحرّ الذي تشكّل بعد الحرب العالمية.

على الرغم من الحروب الكثيرة التي خاضها الجيش الأميركي منذ ذلك الوقت، بدءًا من كوريا وفيتنام وصولًا إلى أفغانستان، إلا أنها بقيت تحت مسمى "الدفاع". وتُعدّ هذه الوزارة الأكبر في الولايات المتحدة من حيث عدد الموظفين والجنود وغيرهم، والأضخم من ناحية الميزانية.

اللافت أن ترامب قدّم نفسه منذ حملته الانتخابية على أنه صانع سلام لا حرب، ووعد بإنهاء الحروب الدائرة حاليًا، لا سيما في أوكرانيا وغزة، وذلك بفترة قياسية.

بعد وصوله إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، أرسل موفديه شرقًا وغربًا لإيجاد وساطة بين المتحاربين، كما كلّف موفدًا خاصًا للشؤون الأفريقية. نجح الرئيس الأميركي في وقف نزاعات مسلحة وأخفق حتى الساعة في "معركته الكبرى" في أوكرانيا التي خصص من أجلها قمة استثنائية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا.

الرئيس لا يترك مناسبة إلا ويكرر فيها "أحقيته" بالحصول على "جائزة نوبل للسلام" لنجاح وساطته في وقف ثماني حروب في غضون ثمانية أشهر من ولايته.

وعن سبب إعادة تسمية وزارة الدفاع إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية، قال ترامب عبر بيان صادر عن البيت الأبيض في ذلك الوقت إنه يهدف إلى منح الوزارة اسمًا "يعكس قوتها التي لا تُضاهى". وسبق له أن قال إن "كلمة دفاع ليست هجومية وليست عدوانية بما يكفي". مع الإشارة إلى أن الكونغرس لم يُصادق حتى الآن على تغيير الاسم رسميًا.

الأمر لم يقتصر على ذلك، فعلى الرغم من أن الجيش الأميركي من الأكبر في العالم بحيث يبلغ عديده مع الاحتياط والحرس الوطني ما يزيد على مليوني عنصر، إلا أنه لا يقيم في المناسبات الرسمية العروض العسكرية الضخمة على غرار الصين وروسيا أو فرنسا وغيرها. إلا أن ترامب طلب إجراء عرض عسكري في حزيران/يونيو الماضي في قلب العاصمة واشنطن بمناسبة الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأميركي.

كل هذه الأمور عكست رغبة الرئيس الـ47 للولايات المتحدة في إظهار قوة البلاد و"جعلها عظيمة مجددًا". ولتحقيق ذلك، خصصت الإدارة الحالية ميزانية لوزارة الحرب تفوق تريليون دولار لعام 2026، وهو رقم لم تصل إليه أي ميزانية دفاعية في العالم.

آراء ترامب يعبّر عنها عمليًا وزير الحرب بيت هيغسيث، الذي يعتقد أن استعادة اسم "الحرب" إلى وزارته من شأنه أن يعيد "الروح القتالية" إلى المؤسسة العسكرية التي أصابها الوهن بفعل السياسات السابقة. ويرى أنه لا بد من "استعادة الجيش" من الشوائب التي دخلت إلى سلوكياته.

لقاء استثنائي

في الأسبوع الأخير من أيلول/سبتمبر، تلقى كبار الضباط الأميركيين حول العالم استدعاءً عاجلاً إلى "قاعدة مشاة البحرية كوانتيكو" في ولاية فرجينيا من دون توضيح الأسباب.

بالفعل حضر ما يقارب 800 ضابط من أعلى الرتب العسكرية، حيث استمعوا إلى شرح مسهب من هيغسيث برر فيه إقالة عدد من الجنرالات بالقول: "من شبه المستحيل تغيير ثقافة ما بالأشخاص أنفسهم الذين ساهموا في إنشائها، أو حتى استفادوا منها"، بعد حديثه عن أن الجيش أجبر بسبب سياسيين متهورين ويفتقرون إلى الحكمة، على التركيز على أمور خاطئة: "لقد أصبحنا بمثابة وزارة اليقظة، لكن هذا انتهى الآن".

وانضم إلى هيغسيث الرئيس الأميركي الذي ألقى خطابًا لأكثر من ساعة طرح فيه فكرة استخدام عمليات الانتشار في المدن الأميركية "كمناطق تدريب لجيشنا".

واعترف ترامب بأنه تعرض لانتقادات بسبب نشره الجيش في شوارع الولايات المتحدة، لكنه قال إن أميركا أصبحت في قبضة ما وصفه بـ"حرب من الداخل" يشنها المهاجرون غير الشرعيين الذين تسعى إدارته إلى ترحيلهم. وقال: "نحن نتعرض لغزو داخلي، لا يختلف عن عدو أجنبي، ولكن الأمر أصعب من نواحٍ عديدة، لأنهم لا يرتدون الزي العسكري".

تغيير في العقيدة العسكرية؟

صحيفة "ناشونال إنترست" كانت قد نشرت قبل الاجتماع الاستثنائي والفريد من نوعه مقالة أشارت فيها إلى وجود تحول استراتيجي كبير، إذ ستُخفِّض الولايات المتحدة من أولوية مناطق مسؤوليتها في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مفضّلة بذلك الدفاع في نصف الكرة الغربي. وأن هناك "مذكرة استراتيجية الأمن القومي"، والتي بموجبها يُسمح لوزير الدفاع بإعادة تنظيم قيادات القتال في الجيش الأميركي والضغط على الضباط من أعلى رتب الجيش لحملهم إما على التقاعد أو المخاطرة بالفصل من الخدمة.

هذا اللقاء النادر مع كبار القادة العسكريين طرح جملة مسائل حيال الاستراتيجية العسكرية الأميركية الجديدة، وهل تحمل تغييرًا في العقيدة القتالية؟ خصوصًا أن اجتماع "كوانتيكو" الاستثنائي لاقى مخاوف عند عدد من الجنرالات الذين صرحوا لصحف أميركية، من دون الكشف عن هويتهم، أعربوا فيها عن هاجسهم من أن خطة ترامب-هيغسيث قد تضعف الاستعدادات لمواجهة الصين.

في السياق، يعتقد مدير مركز التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون ريتشارد ويتز، أن الاجتماع في فرجينيا "كان اجتماعًا لمرة واحدة وليس نمطًا". ويقول ويتز لـ"النهار" إن تصريحات ترامب خلال اللقاء عن نشر غواصات نووية مقابل السواحل الروسية سبق أن أدلى بها سابقًا، و"هذا يجعله يبدو قويًا في وطنه… الروس قلقون الآن بشأن إمكانية تزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك أكثر من قلقهم بشأن دوريات الغواصات المستمرة منذ عقود".

رئيس القسم السياسي العسكري في معهد شؤون الأمن العالمي والدفاع، اللواء المتقاعد ياسر هاشم، لا يظن بدوره أنه سيكون هناك "تأثيرات مباشرة على الانتشار الأميركي في العالم بصفة عامة، لا في الحجم ولا المهام"، ويرى أن فكرة انخراط الجيش الأميركي بالداخل، سواء في قضايا الحدود أو ببعض الولايات والمدن، مجرد "تحضير وتوجيه فكري لأهمية مشكلات الداخل وخطورتها بالنسبة للقيادة الأميركية الحالية، ومحاولة نقل هذه المخاوف للقادة".

وفي معرض حديثه مع "النهار"، يشير اللواء السابق في الجيش المصري إلى أنه "يستبعد حصول أي تراجع في الدور الأميركي على الساحة الدولية، وإن حدث فسيكون بمثابة إشارة بداية لبدء محاولات شغل الفراغ، والتي قد يستتبعها كالعادة نشوء صراعات بين قوى إقليمية ودولية أخرى لملء هذا الفراغ أو تحالفات لمحاولة سده". لكنه يعود ويشدّد على أن الارتباطات العسكرية الأميركية، سواء مع أوروبا أو كوريا أو اليابان وغيرها، هي "معاهدات استراتيجية تشكّل ركنًا هامًا من العقيدة الأميركية العسكرية. ربما ينظر ترامب إلى وجود تحصيل عائد منها لكنه بالقطع يعلم أنها أيضًا أحد أركان القوة الأميركية التي تضعها على قمة العالم".

لكنّ القلق في أوروبا يبدو أكثر وضوحًا، وهو قد بدأ يتظهر في أشكال مختلفة قبل سنوات وبوتيرة متصاعدة، لتأتي الحرب في أوكرانيا وتضع دول الاتحاد الأوروبي تحت ضغط أميركي لزيادة إنفاقها الدفاعي حتى 5 في المئة، والأهم أنها بدأت البحث عن تطوير صناعاتها الدفاعية وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي بعيدًا من الحليف الأطلسي في واشنطن. وعن هذا القلق وسباق التسلح الأوروبي، يشرح المختص في الشؤون الأوروبية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) حسين الوائلي، أن الأوروبيين يدركون أن "السياسة الدفاعية الأميركية قد تكون مقبلة على مرحلة إعادة توجيه أو إعادة ترتيب للأولويات. هذا الشعور يفتح نقاشًا متصاعدًا بين الحلفاء حيال مدى إمكانية الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة، وحول الحاجة إلى تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية الذاتية".

ويستطرد الباحث المقيم في بروكسل، أنه على الرغم من "عدم وجود مؤشرات رسمية على تغيّر جوهري في العقيدة العسكرية الأميركية بالمعنى الاستراتيجي الكامل… فإن بعض التحولات الملحوظة تبدو أكثر إدارية وتوجيهية من كونها استراتيجية".

ويشرح لـ"النهار" أبرز التحولات الاستراتيجية الأميركية بأنها تركز على "الكفاءة والانضباط واللياقة وإعادة هيكلة بعض الأدوار العسكرية"، إضافة إلى "مراجعة توزيع القوات من دون أن يرافقها حتى الآن أي خفض معلن وواسع النطاق". والنقطة الأخيرة، برأي الوائلي، تكمن في "إعادة ترتيب أولويات التهديد، مع إيلاء اهتمام متزايد للصين وتحديات المحيط الهادئ، من دون إعلان صريح بأن روسيا أو أوروبا باتتا أقل أهمية".

صراع ونفوذ

وفي سياق الصراعات الجيوسياسية مع الصين، يكتفي المحلل الدفاعي المقيم في واشنطن، ويتز، بالقول إنه ليس بالضرورة أن يتفاقم ذلك إلى مستويات أكثر حدّة "لأنهم (الإدارة الأميركية) ما زالوا في طور تطوير استراتيجية الأمن القومي، وسيتم إعطاء الأولوية للتركيز على اللياقة البدنية بشكل مستقل عن أي خصوم معيّنين. يرون أن اللياقة البدنية مفيدة لأي صراع". ويستتبع الباحث في معهد "هدسون" تعليقه بأن "ترامب يوضح أنه لا يحب الحروب ولا يريدها، ولكن إذا كان عليه خوضها فهو يريد الفوز بها". أما اللواء هاشم فيعلق على مسألة الصين بالقول إنه "على الرغم من توسعها وتوغلها الاقتصادي، إلا أنها لم تُختبر كقوة منذ زمن، ولا تلجأ للتحالفات مع دول أخرى. وبالتالي أظنها تعتمد الصبر الاستراتيجي وتراكم أخطاء الخصوم والمنافسين أكثر مما تعتمد على قوتها".

إن كان هذا رأي الباحثين بصراع النفوذ مع روسيا والصين، فإن امتداداته تصل إلى القارة الأفريقية، حيث مرّت العلاقة بفترة ركود نسبي، قبل أن تعود لتأخذ زخمًا، وهذا ما يبدو لافتًا من خلال أنشطة القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم).

وفي هذا الإطار، يلفت اللواء هاشم الذي أمضى سنواته الطويلة في الحرس الجمهوري المصري، إلى أن مظاهر الاهتمام الأميركي بأفريقيا تتفاوت من مكان لآخر، فـ"أفريقيا بالنسبة لأميركا تشبه البازل الذي قد تتغير فيه الأمور كل يوم"، وهي بيئة تحتاج للتعامل مع كل حالة بحالتها.

وينوّه في السياق نفسه، إلى أن ما حدث مؤخرًا من خروج فرنسي من بعض الدول، ومحاولة روسيا ملء الفراغ فيها "لا يجذب الاهتمام الأميركي حاليًا. ويُكتفى بالتحوط، سواء بدعم الدول المستقرة أو بالتركيز على التعامل مع دول مثل إيران وفنزويلا كمرحلة مهمة في إطار مواجهة روسيا".

أوروبا والهوية الدفاعية

الحذر الأوروبي من مقاربة الإدارة الأميركية للحرب في أوكرانيا والأمن الأوروبي تتضح معالمه يومًا بعد آخر وفي أوقات متسارعة. ومن هنا يمكننا فهم التغيير الجذري في المقاربة الألمانية لإنفاقها العسكري، ودعوات فرنسا إلى تأسيس قوة أوروبية مشتركة. وكأن "الجبهة الشرقية" أعادت إشعال "كوابيس الماضي" وهواجس الحرب الباردة. وبالعودة إلى الباحث المتخصص في الشأن الأوروبي وحلف "الناتو" حسين الوائلي، فهو يشدّد في معرض حديثه مع "النهار" على مسألة بالغة الأهمية، إذ يرى أن "المؤسسات الأوروبية تترسخ لديها قناعة متزايدة بضرورة عدم التعويل الكلي على الولايات المتحدة في جميع جوانب الأمن الأوروبي. ويتجلى ذلك بوضوح في كيفية التعامل مع حوادث اختراق الطائرات المسيّرة الروسية للأجواء الأوروبية".

ويشير في هذا الصدد إلى أن "الرد جاء أوروبيًا أكثر منه أطلسياً، على الرغم من أن الناتو يُفترض أن يكون المسؤول عن أمن دوله الأعضاء ودفاعها"، ويستند بذلك إلى القمة الأوروبية الاستثنائية التي عُقدت في الدنمارك لبحث اختراقات المسيّرات بعيدًا من إطار حلف الأطلسي، "الذي بدا كأنه يحاول التوازن في موقفه، مدركًا أن واشنطن لا تمتلك رؤية واضحة وحاسمة إزاء هذه المسألة".

مشاركة المقال: