الخميس, 9 أكتوبر 2025 02:03 AM

الصحافة في عصر الخوارزميات: صراع بين سلطة الحدث وسطوة الذكاء الاصطناعي

الصحافة في عصر الخوارزميات: صراع بين سلطة الحدث وسطوة الذكاء الاصطناعي

ما مصير الصحافة في ظل تحولها من نقل الوقائع الموثقة إلى إنتاج نصوص خوارزمية تعتمد على الاحتمالات؟ وكيف يمكن للصحفيين الحفاظ على دورهم في مشهد إعلامي يتسارع إنتاجه ويعتمد بشكل كبير على الخوارزميات؟ وما هو الخطر الحقيقي في اعتماد المحتوى الصحفي على الترجيح الخوارزمي بدلاً من الاعتماد على الواقع الميداني؟

مع تسارع وتيرة انتشار المعلومات وتكاثر النصوص الرقمية عبر منصات التواصل ووسائط الإعلام، تبرز تساؤلات جوهرية حول طبيعة الصحافة ودورها. هل الأخبار والنصوص التي نقدمها اليوم ترتكز حقاً على وقائع حقيقية يمكن التحقق منها، أم أن هناك تحولاً يحدث بصمت، حيث تحل الخوارزميات محل الصحفي في صناعة المحتوى؟ هل نحن أمام صحافة قائمة على الحدث، أم أمام نسخ احتمالية من الأخبار تولدها معادلات حسابية؟ هذا الصراع بين الواقعة والخوارزمية هو جوهر التحدي الذي تواجهه مهنة الصحافة اليوم. هل فقدت الصحافة مركزيتها بوصفها حارسة للواقع، أم أنها على أعتاب إعادة تعريف جذري لدورها في عصر الذكاء الاصطناعي؟

الواقعة الصحفية كمرجع أساسي في الصحافة التقليدية

في النمط الصحفي الكلاسيكي، الواقعة هي حجر الزاوية لأي تغطية صحفية. تبدأ القصة الصحفية من حدث محدد وواضح في العالم الواقعي، مثل حادث سياسي أو كارثة طبيعية أو تصريح رسمي أو حتى لحظة إنسانية. يلعب الصحفي دور الوسيط الموثوق بين العالم والقراء، حيث ينقل الحدث بلا تحريف، ويضيف إليه شروحات وتفسيرات، ويضعه في إطار سياقه التاريخي والاجتماعي. تكمن قوة الصحافة في هذه المرحلة في احتكارها الوصول إلى المصادر الحقيقية للمعلومات، فالقدرة على التغطية الميدانية والتوثيق تعني التحكم في صناعة الرسالة الإعلامية وصياغة الرأي العام.

كيف غيّر الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة؟

لم تعد الواقعة المنقولة من الميدان المرجع الحصري لتكوين الخبر والمحتوى. بدأت الخوارزميات بإنتاج نصوص وسرديات بمساعدة قواعد بيانات ضخمة وبرمجيات قادرة على تقييم احتمالات لغوية ومعلوماتية، ما يسمح لها بإنشاء محتوى حتى عند غياب حدث ميداني محدد. وهكذا، صار "المعنى" بعيداً عن الواقع المباشر، بل نتاج عملية حسابية معقدة ترتب وتُركب المعلومات بطريقة احتمالية.

التحول في مركزية الصحافة

هذا التغير التقني يلغي تفرد الصحفي التقليدي في إنتاج النصوص الإعلامية وصياغة الأخبار، ويفقد الصحفي احتكاره لعملية صناعة المادة الإعلامية، وينتقل إلى موقع يشارك فيه الخوارزميات على ساحة واحدة في إنتاج المحتوى بكثافة وسرعة غير مسبوقة. في الوقت نفسه، انتقل الجمهور من موقع التساؤل فقط: "ماذا حدث؟" إلى موقع يستهلك فيه بشراهة محتوى خوارزمياً قد لا يستند إلى حدث ميداني موثق. هنا يتغير دور الصحفي من ناقل ومراسل للوقائع إلى مدقق ومفسر وراصد يقوم بمراجعة وتقييم المحتوى الخوارزمي، ويصحح أوجه القصور أو المغالطات فيه.

إشكالية "المعنى"

في الصحافة التقليدية، يُبنى المعنى على أحداث موثقة ووثائق وشهادات ميدانية، ما يمنح النص الصحفي طابعاً موثوقًا وواقعيًا. أما في الصحافة القائمة على الخوارزميات، فالخبر أو النص يكون نتاج ترجيح احتمالات لغوية ومعلوماتية قد لا تكون بالضرورة انعكاسًا مباشراً لوقائع حقيقية. هنا يبرز السؤال الأساسي: هل يمكن اعتبار ما تنتجه الخوارزميات "خبراً" بالمعنى الصحفي التقليدي، أم نحن أمام "نص احتمالي" قائم على الحسابات والاحتمالات، دون مرجعية واضحة للواقع؟

التأثيرات والنتائج

نتيجة لذلك، تواجه الصحافة تحديات عملاقة، منها تحدي تآكل الثقة، فإذا خفّت صلة المحتوى الإعلامي بالواقع الموثق، يزداد قلق الجمهور واضطراب علاقته مع النص. وتحدي تضخم المحتوى الإعلامي، فتكرار المحتوى الخوارزمي وإنشاؤه بكثافة قد يطغى على الوقائع الحقيقية، ما يؤدي إلى ضياع الأخبار الموثقة وسط "بحر" من النصوص الاحتمالية. وتحدي إعادة تعريف المهنية الصحفية، فلم تعد مهمة الصحفي محددة بإنتاج المحتوى، بل تنتقل إلى هندسة المعنى، عبر اختيار المحتوى المناسب، وشرح الفوارق بين المحتوى الميداني والأخبار المنتجة آلياً.

التعامل مع التحولات الصحفية

أصبح الصحفي مطالباً بأن يعيد تعريف دوره في زمنٍ تتقدّم فيه الخوارزميات لتشارك في صناعة الخبر وصياغة السرديات. لقد تغيّرت مهماته من جمع المعلومات وتحريرها يدوياً إلى التعامل مع أدوات قادرة على إنتاج نصوص وصور وفيديوهات بضغطة زر. هذا التحول لا يعني تراجع قيمة الصحفي، بل يفرض عليه تأهيلاً جديداً؛ أن يفهم كيف تعمل النماذج اللغوية، أن يقرأ تحذيراتها، وأن يوظفها بوعي نقدي بدل أن ينجرّ وراءها. فالصحافة التي كانت تقوم على مهارة الميدان واللغة، باتت اليوم بحاجة إلى معرفة تقنية وفلسفية تمكّن الصحفي من التمييز بين كونه "مُشغّلًا تقنيًا" و كونه "فاعلًا معرفيًا" يضيف قيمة حقيقية. في هذا السياق، يصبح الصحفي المعاصر مهندساً للمعنى، يوازن بين الواقعة والخوارزمية. فعند ظهور نص خوارزمي حول موضوع سياسي معين، يراجع الصحفي الأخبار الرسمية، التصريحات، والشهادات الميدانية ليحدد دقة المعلومات ويكشف التحيزات أو الأخطاء المحتملة. وينبغي على الصحفي إعداد تقارير توضح خلفيات الأخبار التي تنتجها الخوارزميات، وشرح كيفية توليدها وما مدى ارتباطها بالحقائق، وإضافة بعد إنساني لا توفره النصوص المنتجة آليًا. وفهم آليات عمل الخوارزميات لتفسير آثارها على الجمهور وجودة المحتوى.

مشاركة المقال: