من بلدة معرِبَة في ريف درعا الشرقي، حيث بدأت سارة العويد سنوات دراستها الأولى، وصولًا إلى جامعة السوربون في باريس، حيث تعمل اليوم باحثة في الأدب العربي الحديث. رحلة طويلة حملت معها حكاية جيل سوري أنهكته السجون ومزقته الحرب، لكنه لم يستسلم في رواية الحقيقة.
ذاكرة التهجير… وبحث عن العدالة
في عام 2012، غادرت العويد مع أسرتها سوريا متجهة إلى الأردن، بعد تصاعد وتيرة القمع في الجنوب السوري. وفي عام 2014، انتقلت إلى فرنسا لتبدأ مسيرتها الأكاديمية الجديدة. بعد سنوات من الدراسة والتأقلم، التحقت بجامعة السوربون عام 2019، حاملة معها ذاكرة القهر والاعتقال والتعذيب، لتحويلها إلى موضوع بحثي يسلط الضوء على واحدة من أكثر القضايا السورية إيلامًا: السجون والمعتقلات.
تقول سارة: "كل ما رأيته وعشته بقي داخلي، من اعتقال أبي وأصدقائه، إلى صورة حمزة الخطيب التي علقت في روحي. لم أستطع تجاهل كل هذا حين قررت موضوع بحثي".
من “القوقعة” إلى “يسمعون حسيسها”
بدأت سارة عملها البحثي برواية القوقعة لمصطفى خليفة، لما تحمله من توثيق دقيق لمعاناة السجناء. لكنها لاحقًا اختارت يسمعون حسيسها لأيمن العتوم، بعد أن شعرت أن صوت الضحايا يستحق أن يُسمع من جديد بلغة تصل وتقنع. ورغم أن أستاذها المشرف رأى أن هذه الروايات قد نالت نصيبها من الدراسات، أصرت على المضي في بحثها، مدفوعة برغبة في تقديم رواية أكاديمية لا تفقد إنسانيتها.
توضح سارة: "البحث المنهجي يفرض عليك الحياد، لكنه لا ينتزعك من ذاكرتك"، مؤكدة أن التحدي الأكبر كان الموازنة بين التحليل الأكاديمي والتجربة الشخصية.
مشاهد التعذيب… بين التوثيق والتحليل
ينقسم البحث إلى عدة أقسام تتناول مشاهد التعذيب الوحشية في الرواية، مع مقارنتها بشهادات حقيقية لناجين، من بينهم عمر الشغري. وقد توقف البحث عند تفاصيل مثل الشنق على أنغام فيروز وأم كلثوم، وتحليل الأثر النفسي لهذه الأساليب. كما رصدت الدراسة أثر الأدب التوثيقي على المتلقين، بالاعتماد على مقابلات وآراء منشورة، وأبرزت أيضاً حضور الأمل والتكافل الإنساني بين السجناء، الذين كانوا يتقاسمون أبسط الأشياء، ويدعمون بعضهم نفسياً داخل بيئة القهر والعزلة.
الذاكرة والرسالة
ترى العويد أن هدفها لم يكن فقط أكاديمياً، بل هو رسالة إلى العالم تقول فيها: "لم نكن إرهابيين، بل بشراً صرنا ضحايا، وذاكرتنا ما زالت حيّة". قارنت في بحثها بين أعمال مثل القوقعة وبيت خالتي لمصطفى خليفة، وبالخلاص يا شباب لياسين الحاج صالح، مؤكدة أن هذه الروايات تشكل أرشيفاً حيّاً لا يمكن تجاهله.
ملف السجون… لا مكان للنسيان
أما عن واقع السجون في سوريا اليوم، فترى سارة أنه ملف مؤلم ومربك، قائلة: "بعد الإفراج عنهم، تُرك السجناء لمصيرهم دون دعم نفسي أو إعادة تأهيل. هم بحاجة إلى برامج رعاية حقيقية، تحفظ كرامتهم وتعيد دمجهم". وتشدد على أن جبر الضرر لا يقتصر على التعويض المادي، بل يشمل حفظ الذاكرة وتكريم الضحايا، بل وتحويل السجون نفسها إلى "مزارات" تروي للتاريخ ما حدث.
من المنفى… إلى حلم الوطن
رغم الغربة، تقول سارة إن حلمها هو إكمال الدكتوراه والمساهمة في بناء وطن يعترف بآلام ناسه، وتختم حديثها بالقول: "الغربة تصنع جروحاً، لكنها تفتح نوافذ على ضوء جديد. القصة ليست شهادة علمية فقط، بل إيمان بأن الإرادة أقوى من المنفى، وأننا سنظل نحمل حكاية بلادنا حتى نعود".