لم يعد المستقبل يحمل صورة الصحفي الذي يستعين بالآلة لتسريع عمله، بل صورة الصحفي الذي يصبح ظلًا للآلة، يساعدها في صياغة الأخبار. الخوارزميات التي كانت أدوات في غرفة الأخبار، أصبحت اليوم هي الغرفة نفسها، اليد التي تكتب، والعين التي تراقب، والعقل الذي يقرر. الصحفي، الذي كان سيد الكلمة وصانع الحكاية، تقلص دوره ليصبح هامشيًا، يلمع نصًا كتبته الآلة، أو يضيف لمسة إنسانية محدودة على سرد لم يعد ملكه. هذه هي لحظة التحول الكبرى، حيث يتبدل كل شيء، ويصبح الصحفي خادمًا في مملكة لم يعد هو من يضع قوانينها.
لا احتكار للمعلومة
كان الصحفي عبر التاريخ الوسيط الأهم بين المعلومة والجمهور، الحارس الذي ينتقي الخبر ويعيد صياغته ليصل إلى الناس. لكن هذه المعادلة تتهاوى أمام صعود الذكاء الاصطناعي. فبحلول عام 2030، ستصل قدرة الخوارزميات على تحليل البيانات إلى ما يقارب 175 زيتابايت، أي ما يعادل مئات أضعاف مجموع ما أنتجه البشر من معرفة مكتوبة منذ فجر التاريخ. وفي عام 2024 وحده، قُدّر أن أكثر من 60 % من المؤسسات الإعلامية الكبرى باتت تستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي في جمع الأخبار أو تحريرها الأولي. ومع هذا التوسع، لن يحتاج القارئ إلى انتظار الصحفي ليخبره بما حدث، إذ ستقدم له الآلة تحليلًا مباشرًا وفوريًا، مدعومًا بالرسوم البيانية والتوقعات اللحظية. عند هذه النقطة، يتراجع دور الصحفي من “ناقل” للخبر إلى “مُفسّر” أو حتى “فيلسوف” يطرح الأسئلة التي تعجز الآلة عن طرحها: لماذا يهمنا هذا الحدث؟ وما أثره على إنسانيتنا؟
أزمة الهوية المهنية
كما نتعامل نحن مع النمل في مطابخنا لا بدافع الكراهية، بل لأن وجوده يربك النظام الذي صنعناه، قد تتعامل الآلة مع الصحفي الذي يحاول التدخل في مجالها. فالخوارزميات التي تكتب آلاف النصوص في ثوانٍ، وتنتج تحليلات معقدة أسرع من أي عقل بشري، قد ترى في بطء الصحفي عبئًا على كفاءتها. وإذا حاول الصحفي أن يفرض زاوية إنسانية أو سردًا عاطفيًا، فقد تهملها الآلة باعتبارها “غير دقيقة” أو “غير قابلة للقياس”، تمامًا كما نهمل نحن التفاصيل الصغيرة التي لا تدخل في معادلاتنا العملية. هنا تتكشف أزمة هوية عميقة: الصحفي الذي كان يومًا صانع المعنى وحارس الحقيقة، يجد نفسه مهددًا بأن يصبح “زائدًا عن الحاجة” في غرفة الأخبار. لم يعد دوره محوريًا في إنتاج الخبر، بل هامشيًا في مراجعة ما تنتجه الآلة أو تزيينه بلمسة بشرية محدودة. ومع تزايد اعتماد المؤسسات الإعلامية على الذكاء الاصطناعي، حيث تشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من المحتوى الإخباري الروتيني قد يُنتج آليًا بحلول 2035 يصبح السؤال وجوديًا: هل الصحافة مهنة في طريقها إلى الذوبان داخل منظومة الخوارزميات، أم إنها ستعيد تعريف نفسها لتبقى صوت الإنسان في زمن تُدار فيه الحقيقة بلغة الآلة؟
فرص البقاء والتجدد
رغم التهديد الذي تفرضه الخوارزميات على دور الصحفي في صناعة الأخبار، تبقى هناك مجالات إنسانية لا تستطيع الآلات الاستيلاء عليها، مثل التحقيقات الميدانية التي تتطلب وجود الإنسان وتفاعله الحسي، وطرح الأسئلة الأخلاقية والفلسفية التي تظل خارج نطاق الرياضيات والخوارزميات. كما يظل السرد الإنساني والبعد الوجداني للصوت البشري ضروريًا لجذب الجمهور. الصحفي هو العين التي تراقب وتشكك في المعلومات حتى في ظل سيطرة الخوارزميات، ما يجعل دوره مستقبلاً هو إعادة تعريفه كضمير مهني وذاكرة إنسانية في عالم تُدار فيه الحقيقة تقنيًا بلغة الخوارزميات. على الرغم من تحوّل دور الصحفي تحت تأثير الخوارزميات، تبقى هناك مساحات إنسانية لا يستطيع الذكاء الاصطناعي احتكارها، منها التحقيقات الميدانية، طرح الأسئلة الأخلاقية والفلسفية، والسرد الإنساني الذي يربط بين الحقائق والوجدان. يظل الصحفي العين التي تراقب وتشكك في المعلومات، واستمراره مستقبلياً يقوم على إعادة تعريف دوره كضمير مهني وذاكرة إنسانية وسط هيمنة التقنية.
حياة تنبض بين السطور
في الغد القريب، حين تكتمل سيطرة الآلة، لن يُسمع صوت الصحفي في ضجيج الخوارزميات إلا كهمس يتيم في عاصفة من الأرقام. ستكتب الآلة الأخبار أسرع من نبض القلب، وستحلل الوقائع أدق من عدسة المجهر، بينما يقف الصحفي على الهامش، متسائلاً: هل بقي للإنسان مكان في سرد الحكاية؟ قد يصبح الصحفي آخر شاهد على إنسانية تتلاشى، آخر من يصر على أن وراء كل رقم دمعة، ووراء كل خوارزمية قلبًا كان يخاف ويأمل. وكما يطرد الإنسان نملة من مطبخه دون أن يفكر في مصيرها، قد تطردنا الآلة من فضاء الكلمة دون أن تلتفت إلينا. لكن، حتى في تلك اللحظة، سيظل الصحفي هو حامل الشعلة، يكتب لا لينافس الآلة، بل ليذكر الإنسان بوجوده، وليترك أثرًا أخيرًا في ذاكرة العالم: كان البشر هنا، ولم تكن الحكاية يومًا مجرد بيانات، بل حياة كاملة تنبض بين السطور.
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية