بعد انهيار نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، لم تقتصر حالة الفوضى على جنود وعناصر الجيش والمخابرات التابعة للنظام السوري السابق، بل امتدت لتشمل كبار المسؤولين الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من أصحاب سلطة إلى هاربين يسعون للنجاة. تحقيق مفصل نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، اليوم 16 تشرين الأول/أكتوبر، يكشف تفاصيل دقيقة حول هروب عدد من كبار ضباط النظام، والدور المحوري الذي لعبته روسيا في تأمين خروجهم من سوريا إلى موسكو، حيث وجدوا ملاذاً آمناً بعد سقوط منظومتهم الأمنية.
بداية الهروب الجماعي
في الساعات الأولى من فجر 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أقلعت طائرة صغيرة من مطار دمشق الدولي متجهة إلى قاعدة "حميميم" الروسية في اللاذقية. كانت الطائرة من طراز "ياك-40" تقل مجموعة من أبرز ضباط النظام، من بينهم مدير المخابرات الجوية قحطان خليل، ووزيرا الدفاع السابقان علي أيوب وعلي عباس، ورئيس أركان الجيش عبد الكريم إبراهيم. هؤلاء الرجال الذين شكلوا العمود الفقري لأجهزة القمع السورية لعقد من الزمن، وجدوا أنفسهم فجأة في موقع الهاربين، بعد أن فاجأهم هروب بشار الأسد نفسه قبل ساعات فقط من القصر الجمهوري. صرح أحد المسؤولين السابقين الذين كانوا على متن الطائرة لـ"نيويورك تايمز" بأن "الركاب كانوا في حالة ذعر كامل، وكأنهم يدركون أنهم يغادرون سوريا إلى الأبد". وأظهرت صور الأقمار الصناعية التي راجعتها الصحيفة أن الطائرة اختفت من مدرج مطار دمشق تلك الليلة، قبل أن تظهر مجدداً في قاعدة "حميميم"، التي شكلت مركز عبور لكبار رجال النظام نحو روسيا.
هروب ماهر الأسد
وفقاً للتحقيق، بدأ الانهيار عندما اكتشف كبار مساعدي الأسد أن رئيسهم غادر القصر دون إشعار. كان الجميع يعتقد أن الرئيس يعقد اجتماعات مع الروس والإيرانيين لوضع خطة دفاع عن العاصمة، لكنهم فوجئوا بأن موكباً روسياً بثلاث سيارات رباعية الدفع نقله وابنه ومساعده المالي إلى "حميميم"، حيث أقلته طائرة روسية إلى موسكو. وبعد ساعات، كرر ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع وقائد "الفرقة الرابعة"، المشهد نفسه. اتصل ماهر برجال أعماله وأصدقائه، طالباً منهم اللحاق به، قبل أن يتوجه بسيارته إلى المطار العسكري وينضم إلى الطائرة المتجهة إلى القاعدة الروسية. وأكدت مصادر للصحيفة أن ماهر يعيش اليوم في موسكو حياة مرفهة إلى جانب ضباط بارزين، من بينهم جمال يونس، في إقامة فخمة في العاصمة الروسية موسكو.
رئيس المخابرات الجوية قحطان خليل
يُتهم رئيس المخابرات الجوية، قحطان خليل، بالإشراف على واحدة من أفظع المجازر التي ارتُكبت خلال الحرب السورية في داريا. وعندما بدأت العاصمة تسقط، تولى بنفسه تنسيق عملية هروب كبار المسؤولين، مستخدماً نفوذه في المخابرات الجوية لتأمين رحلة جماعية من دمشق إلى "حميميم". وأفادت "نيويورك تايمز" أن الروس نسقوا مباشرةً مع خليل لنقل هؤلاء إلى موسكو خلال الساعات التالية، عبر رحلات متتالية انطلقت من القاعدة. خدم قحطان خليل ضابطاً في فرع المهام الخاصة التابع لإدارة المخابرات الجوية، ثم عُيّن رئيساً للفرع ذاته. وفي بداية 2018، جرى ترفيعه لرتبة لواء، وكان في ذلك الوقت رئيس فرع المهام الخاصة في المخابرات الجوية، وهو الفرع الذي كان يرأسه أيضاً غسان إسماعيل. ولاحقاً تم تعيينه بمنصب معاون رئيس إدارة المخابرات الجوية، ورئيس اللجنة الأمنية السابق في محافظة درعا جنوبي سوريا. وفي كانون الأول 2021، فرضت وزارة "الخزانة الأمريكية" عقوبات على خمسة ضباط في قوات النظام السوري، بينهم قحطان خليل الذي قالت إنه مسؤول عن هجمات بالأسلحة الكيماوية استهدفت المدنيين. ولقب خليل بـ "جزار داريا"، وفرضت "الخزانة" عقوبات عليه، كونه "مسؤول كبير" في "المخابرات السورية"، وأحد الضباط المتهمين بالمسؤولية المباشرة عن مجزرة أودت بحياة مئات الأشخاص في مدينة داريا بريف دمشق، صيف عام 2012. وقحطان خليل كان أحد المشرفين عن تعذيب المعتقلين في سجن مطار "المزة العسكري" سيئ السمعة، خلال الثورة السورية، بحسب موقع "مع العدالة". وكانت لمدينة داريا التي تقع على مقربة من مطار المزة العسكري، معقل المخابرات الجوية الرئيس، تجارب من القمع والهجمات الدموية للنشاط الثوري ضد النظام السوري، مع الضابطين غسان إسماعيل وقحطان خليل، إذ تعدّ المخابرات العسكرية صاحبة النفوذ الأكبر في ملف المنطقة. كما أدار الضابطان سجن المزة العسكري، الذي يضم مئات المعتقلين من مدينة داريا إلى اليوم.
حسام لوقا.. نهب خزائن المخابرات قبل الهروب
داخل المجمع الأمني في جنوب غرب دمشق، كان نحو 3000 عنصر من المخابرات العامة بانتظار أوامر مديرهم حسام لوقا، أحد أبرز مهندسي سياسة الاعتقالات والتعذيب في عهد الأسد. وبينما كان ضباطه يتأهبون لهجوم مضاد، اختفى لوقا فجأة بعد أن أمر بفتح خزنة المقر وسحب جميع الأموال الموجودة فيها، والتي بلغت نحو 1.36 مليون دولار، وفقاً لشهادات ضباط عملوا معه. وقال ثلاثة مسؤولين سابقين إن لوقا وصل لاحقاً إلى روسيا، رغم أن الصحيفة لم تتمكن من التحقق من موقعه بدقة. ينحدر لوقا من منطقة خناصر بريف حلب الجنوبي، ويعتبر من أبرز الشخصيات الأمنية التابعة للنظام السوري. عينه الرئيس المخلوع بشار الأسد رئيساً لشعبة الأمن السياسي، خلفاً للواء محمد خالد رحمون الذي شغل منصب وزير الداخلية في 30 من تشرين الثاني 2018. وكان له الدور الأكبر في السيطرة على حي الوعر في مدينة حمص، عام 2017، والذي دخل باتفاق رعته روسيا قضى بخروج قاطنيه ومقاتليه إلى الشمال السوري. واستلم لوقا رئاسة فرع الأمن السياسي في حمص، منذ نيسان 2012، خلفاً للعميد نصر العلي وعرف بسطوته الأمنية ضد المظاهرات السلمية الأولى في مدينة حمص. كما برز اسمه ضمن قوائم الشخصيات الأمنية التابعة للنظام المسؤولة عن تعذيب المعتقلين في السجون. وفي عام 2012 أدرج الاتحاد الأوروبي اللواء لوقا على قائمة العقوبات، بسبب مشاركته في تعذيب المتظاهرين والسكان المدنيين.
كمال الحسن.. اشتباك مع الثوار
رئيس شعبة المخابرات العسكرية، كمال الحسن، واجه مصيراً أكثر تعقيداً. أثناء محاولته الهروب من منزله في ضاحية "قرى الأسد"، تعرض لكمين مسلح وأصيب بجروح. فرّ من منزل إلى آخر قبل أن يلجأ إلى السفارة الروسية في دمشق، التي فتحت أبوابها له وقدّمت له الحماية حتى نقله الروس إلى قاعدة "حميميم". وقال أحد المقربين منه للصحيفة إنه كان "يعيش كمن فقد كل شيء، لكنه بقي يحمل القرص الصلب الذي يحتوي على وثائق استخباراتية بالغة الحساسية". تواصلت صحيفة "التايمز" مع الحسن عبر مُحاور تحدث معه هاتفياً، لكنه رفض الكشف عن مكانه أو الموافقة على إجراء مقابلة، إلا أنه روى للصحيفة قصة هروبه. قال الحسن إنه احتمى في "مقر دبلوماسي" قبل مغادرته سوريا، وكان من بين المسؤولين الآخرين الذين لجأوا إلى السفارة الروسية مدير الأمن الوطني المتقاعد علي مملوك، الذي ساعد في إدارة نظام الاعتقال الجماعي والتعذيب والاختفاء الذي كان رمزا لخمسة عقود من حكم الأسد. كمال الحسن هو خليفة كفاح الملحم في رئاسة شعبة المخابرات العسكرية، وهو الراعي الرسمي لعصابات شجاع العلي، المختصة بالخطف وطلب الفدية والابتزاز. أدرجته الولايات المتحدة على قائمة المعاقبين بقانون "قيصر" بعد أن خرجت أغلب الصور من الفرع الذي كان يقوده، وهو "الفرع 227" التابع لـ"المخابرات العسكرية".
علي مملوك: "الصندوق الأسود" للأسدين
من بين آخر الفارين كان علي مملوك، الرئيس السابق لمكتب الأمن الوطني، والذي يُعد من أقدم رجال الأمن في عهدي حافظ وبشار الأسد. حين علم بانهيار النظام، حاول الالتحاق بالقافلة المتجهة إلى المطار، لكن موكبه تعرض لكمين، قبل أن ينجح في الوصول إلى السفارة الروسية أيضاً. ووصف أحد أصدقاء مملوك بأنه "الصندوق الأسود للنظام، يعرف كل الأسرار منذ أكثر من أربعة عقود". نُقل مملوك لاحقًا مع كمال الحسن في موكب روسي محروس إلى قاعدة "حميميم"، ومن هناك إلى موسكو، بحسب ثلاثة مصادر مطلعة. تنقل مملوك في عدد من المراكز الأمنية الرفيعة، منها نائب رئيس فرع المخابرات الجوية، ثم رئيس جهاز المخابرات العامة في 2005. وبعد اغتيال "خلية الأزمة" في تموز 2012، تم تعيين علي مملوك على رأس "مكتب الأمن الوطني" خلفًا لهشام بختيار، ليصبح بذلك مشرفًا على عمل كافة أجهزة المخابرات. وكان لمملوك دور بارز في قمع الحراك المناهض للنظام منذ بداية الثورة السورية، ما دفع دولًا أوروبية والولايات المتحدة لفرض عقوبات عليه، كما صدرت عام 2018 مذكرة توقيف بحقه من قبل القضاء الفرنسي بتهم "التواطؤ مع أعمال تعذيب واعتقالات، وضلوع في جرائم ضد الإنسانية".
روسيا.. الملاذ الأخير
تشير الصحيفة إلى أن السفارة الروسية في دمشق وقاعدة "حميميم" الساحلية تحوّلتا إلى محور رئيسي لهروب مسؤولي النظام، حيث تولى الروس ترتيب عمليات النقل وتأمين الوثائق الجديدة لبعضهم. وقال مازن درويش، رئيس "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" للصحيفة، إن "كثيرين من رجال النظام اشتروا هويات جديدة عبر برامج التجنيس في دول الكاريبي، مستخدمين أموالهم وشبكاتهم الروسية للتمويه والاختفاء".