تعتبر مدينة البارة الأثرية، الواقعة في جبل الزاوية بمحافظة إدلب، من أبرز القرى الأثرية في سوريا. تُعرف البارة بأنها أكبر "المدن التاريخية الميتة" في الشمال السوري، وتتميز بهندستها المعمارية الفريدة وأبنيتها المميزة، خاصةً أهراماتها الحجرية الضخمة التي كانت تستخدم كمدافن.
يقول الدكتور مصطفى سماق، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة حلب ومدير مكتب التوثيق الأثري والسياحي في مجلس مدينة أريحا، إن مدينة البارة الأثرية تقع على السفح الغربي من جبل الزاوية، وتبعد عن إدلب حوالي 34 كيلومترًا، وتمتد على مساحة تقدر بحوالي 6 كيلومترات مربعة. تغطي هذه المساحة بقايا العديد من الأبنية الأثرية القديمة المتناثرة، والتي يمكن رؤيتها من بين أشجار الزيتون الباسقة. وتعتبر البارة اليوم أكبر مجموعة من الخرائب الأثرية التي تعود إلى العهود الرومانية والبيزنطية والعربية الإسلامية في شمال سوريا.
أوضح سماق في تصريح لـ"الحرية" أن البارة كانت مدينة مهمة في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد عُثر على اسمها منقوشًا على حجر في بناء يسمى الدير، حيث عُرفت باسم (كفر البارة) ثم الكفر، قبل أن يعرفها مؤرخو العرب باسم (البارة). وتشير الدراسات إلى وجود مقابر إسلامية قديمة ومساجد صغيرة مهجورة ونقوش عربية متنوعة، ويعود أقدم بناء فيها إلى العهد الروماني في القرن الثاني بعد الميلاد. وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، أصبحت البارة جزءًا من قسمها الشرقي الذي عُرف فيما بعد باسم الدولة البيزنطية، وكانت تتبع إداريًا إلى أفاميا، على الرغم من أن علاقتها بمدينة إنطاكية كانت أقوى وأكبر.
أشار سماق إلى أنه في عام 637 م، حرر العرب المسلمون سوريا من الحكم البيزنطي، وبقي أهل البارة المسيحيون في مدينتهم، وتمتعوا بامتيازات كثيرة في ظل الحكم العربي الإسلامي. ازدهرت المدينة وتوسع عمرانها نتيجة لموقعها الهام. ظل البيزنطيون ومن بعدهم الصليبيون يطمعون فيها حتى أواخر القرن الحادي عشر الميلادي (1098م)، ثم هُزموا وطُردوا بعد 25 عامًا، وتمكن العرب نهائيًا من إبعاد الأخطار عن البارة. وحتى عام 1148، بقيت البارة تنعم بالحكم العربي. ويبدو أن هجرة السكان وانهيار المدينة لم يحدثا بشكل مفاجئ، وإنما تدريجيًا نتيجة لعوامل طبيعية وبشرية، مثل الحروب المتكررة والزلازل.
وعن أهم الآثار التاريخية في مدينة البارة، يقول سماق إن بيوت السكن في المدينة ما زالت تحتفظ في أغلب الأحيان بطابقين، مما يدل على الرخاء الذي كان يعيشه السكان في ذلك الزمان. وتزين واجهاتها النوافذ والمحاريب والتيجان والأعمدة والنقوش والزخارف المنفذة بدقة وإتقان. ومعظم البيوت لها أروقة ودهاليز كبيرة، إضافة إلى أقبية مقسمة إلى ردهات صغيرة تستخدم لتخزين المؤن، كما توجد في بعض الأقبية معاصر للزيت أو النبيذ. ومن أهم هذه البيوت البيت الذي يعرف باسم دير سوباط أو قصر سوباط، وتعطي منازل البارة فكرة عامة عن حياة الأفراد الخاصة في القرنين الخامس والسادس الميلاديين. ويلاحظ أن طرق المدينة ضيقة ومرصوفة بالأحجار.
لفت سماق إلى وجود خمس كنائس في البارة، إحداها كبيرة تقع إلى الشرق من المدينة، وتتميز بوجود الكثير من الأعمدة والتيجان والحجارة المتناثرة بالقرب منها، مما يدل على فخامتها. وبالقرب من هذه الكنيسة توجد كنيسة أخرى أصغر حجمًا، وعلى بعد 160 مترًا إلى الشمال توجد كنيسة أخرى أكبر من الأولى. كما توجد كنيستان في المنطقة المجاورة للكنيسة الكبرى. وتعتبر الكنائس الثلاث الأولى من أهم الكنائس في البارة، وهي موزعة بشكل إيواني (بازيليكي).
اعتبر سماق المدافن الحجرية من أهم الآثار المتبقية الملفتة للانتباه، نظرًا لكبر حجمها وهندستها المتميزة. وتتألف من قاعدة مربعة الشكل مبنية من الأحجار المنحوتة الكلسية، وفي جزئها العلوي بُني الهرم. وتزين الجدران الخارجية لأكبر مدفن موجود في البارة ثلاثة سويات من النتوءات المزخرفة والأصناف التي تلطف ضخامة البناء، والتي تزين أجزاءه بما فيها الباب وزخارف على شكل نبات اللبلاب.
بين سماق أن قلعة أبي سفيان تعد من أقدم القلاع في سورية، وإنها خير دليل على أن العرب سبقوا الإفرنج في تشييد القلاع. وتقع هذه القلعة في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة، ويطلق عليها أهل البارة اليوم اسم البرج. ويعتقد بعض الباحثين أنها بنيت في العهد الأيوبي. والفترة الطويلة التي عاشتها المدينة أدت إلى تعرض الكثير من أبنيتها للانهيار بشكل كامل أو جزئي، وهذه الأجزاء الباقية تعرضت للتصدع والتشقق والتآكل. لذلك أصبح من الضروري القيام بعمليات الصيانة والترميم لهذه الأبنية، وذلك بالعمل على تقوية الأجزاء القائمة للحفاظ عليها والحيلولة دون سقوط أجزائها، وذلك بتدعيم الأجزاء الضعيفة وربطها إلى بعضها مع تعويض الأحجار المفقودة في المناطق الحساسة جدًا فقط.
وهكذا تعد البارة بموقعها وآثارها شاهد عيان على ما كانت عليه المدينة من أهمية تاريخية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية في العهود الرومانية والبيزنطية والإسلامية، الأمر الذي جعلها مهوى السائحين المحليين والقادمين من الدول العربية الشقيقة والأجنبية الصديقة، وخاصة وأنها مدرجة ضمن مواقع التراث العالمي. ففي عام 2011 أُدرج جبل الزاوية الذي تقع فيه البارة ضمن قائمة التراث العالمي لـ"يونسكو".
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية