الجمعة, 31 أكتوبر 2025 12:12 AM

اكتشافات أثرية مذهلة في مدافن عازار: رحلة عبر ألف عام من الحضارات الفينيقية والرومانية

اكتشافات أثرية مذهلة في مدافن عازار: رحلة عبر ألف عام من الحضارات الفينيقية والرومانية

تقع مدافن عازار على بعد حوالي 5 كيلومترات جنوب مدينة طرطوس، مقابل جزيرة أرواد. يُعتقد أن هذه المدافن تعود لسكان أرواد، نظرًا لمحدودية مساحة الجزيرة التي لا تسمح بإنشاء مثل هذه المدافن، بالإضافة إلى عدم وجود أي آثار لمدافن معاصرة لتلك الحقبة في الجزيرة (العصر الروماني القديم)، وفقًا لدراسات أجراها العالم الأثري أرنست رينان عام 1860. كما لم يتم اكتشاف أي آثار لمدينة يمكن أن تكون مدافن عازار تابعة لها.

أوضح المهندس مروان حسن، رئيس دائرة آثار طرطوس، أن أصل تسمية المنطقة بـ "مدافن عازار" غير معروف، إلا أن الاسم تناقله الناس جيلاً بعد جيل. وقد تم اكتشاف هذه المدافن أثناء تشييد مرفأ طرطوس عام 1965، عندما كان العمال ينقلون الرمال من المنطقة دون علمهم بوجود مدافن أثرية كبيرة وهامة تحتها. مع استمرار نقل الرمال، كانت تظهر معالم جديدة من المدافن، مما دفع المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى إرسال المختصين لإجراء التنقيب والدراسة.

تعود مدافن عازار، حسب المهندس حسن، إلى فترات تاريخية متعددة تمتد من الفترة الفينيقية وحتى الفترة الرومانية، مرورًا بالفترة اليونانية. وقد حظيت هذه المدافن باهتمام كبير من المديرية العامة للآثار والمتاحف، التي أجرت فيها العديد من مواسم التنقيب. أسفرت هذه التنقيبات عن اكتشاف مجموعة من المدافن الجماعية والقبور الفردية، عُثر في عدد منها على توابيت رصاصية مزينة بـ "عناقيد العنب" و "آلهة النصر" أو "ربة النصر"، بينما عُثر في بعضها الآخر على توابيت خالية من الزخارف. يفسر الباحث «أرنست» ذلك بأن احترام الميت لا يظهر بالضرورة في المظاهر الخارجية على التابوت، وإنما يتجلى في الأشياء الفاخرة الموضوعة داخلها، مثل الجواهر ووريقات ذهبية على شكل نظارات للعيون وعصابة الرأس الذهبية.

أشار المهندس حسن إلى أن المدافن المكتشفة، التي تزيد مساحتها على 12 هكتارًا، كانت محفورة ضمن طبقة من الصخور الرملية سهلة النحت على طول الشاطئ. وتتميز بأنماط عديدة فردية ومزدوجة وعائلية تعود إلى أواخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الميلادي، بالإضافة إلى مدافن تعود إلى العصر الفينيقي (اكتشفت حديثًا)، متأثرة بمدافن عمريت التي تسبقها بخمسة قرون على الأقل.

أكد المهندس حسن أن النظام المعماري للمدافن كان واحدًا تقريبًا، مع اختلافات في شكل السقف. فالمدافن العائلية، على سبيل المثال، تضم طابقين أو ثلاثة بأسقف هرمية أو سنمية، ويتم الدخول إليها عبر باب حجري محكم الإغلاق يفتح بالسحب للأعلى، ثم إلى درج غير مكتمل النحت. وتضم الغرفة الداخلية منها مكانًا لدفن رب العائلة، بينما تضم الغرفة المتقدمة ستة قبور، ثلاثة في كل جانب، لأفراد الأسرة. يبدو أن الذين كانوا يُدفنون في توابيت خشبية أو رصاصية كانوا عائلة متماسكة حتى في العالم الآخر، متمسكين بآمال الخلود في بيت الأبدية، كما سماها التدمريون.

عُثر حول المدافن على بعض التماثيل واللقى الأثرية مثل الطاسات والقدور الفخارية، وبعض الوريقات الذهبية وقوارير العطور وحلي النساء والأحجار الكريمة وأدوات أصحاب المهن التي كانت تقدم كهدايا للمتوفين.

تتألف المقبرة من ثلاثة أنماط: القبور المنفردة ذات اللحود الحجرية، والقبور المنفردة ذات التوابيت الفخارية، والمدافن العائلية.

أوضح المهندس حسن أن لقى مدافن عازار تعود إلى أواخر القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الميلادي. ومن بين اللقى المكتشفة قاعدة نقش عليها ثلاثة عشر سطرًا باليونانية، تنص على أن مجلس الشيوخ قدم هذا التمثال لمرفأ صيادي الأرجوان المقيمين في المدينة تعبيرًا عن تكريمهم ورعايتهم.

كما تم العثور على تمثال رخامي متوسط الحجم للإله باخوس خلال عملية نقل الرمال، وهو عاري الجسد ويحمل بيده اليسرى ثوبه الفضفاض المتدلي حتى قدميه مع عنقودين من العنب يضمهما إلى صدره (ناقص الرأس)، وهو محفوظ في متحف طرطوس. وقد عُرض هذا التمثال مع مجموعة من المكتشفات المحلية في قاعات المعرض الذي أُعد في دمشق خلال انعقاد مؤتمر الآثار الكلاسيكية عام 1969.

أشار المهندس حسن إلى وجود أنواع أخرى من اللقى بجوار المتوفين في المدفن، مثل القدور الفخارية، والأواني النحاسية، والوريقات الذهبية، ومشبك موشح بالذهب وخواتم ذهبية. وقد ساعدت هذه اللقى في التعرف على مختلف الصناعات التي كانت سائدة في تلك الفترة.

تم العثور أيضًا على تماثيل وتوابيت حجرية تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد أثناء عمليات ترحيل الأتربة والرمال، مثل تمثال من الرخام لطفل عار ممتلئ الجسم ناقص الرأس يحمل بيده اليسرى عنقودين من العنب ورداء يتدلى على شكل شلال ماء. وقد تم العثور على تابوت حجري ذي رأس منحوت من ذات الحجر البركاني المعروف في «صافيتا»، إضافة إلى تابوتين مماثلين من الرخام، وبعض التماثيل المتأثرة بالفن القبرصي، بالإضافة إلى الأقراط وتسريحة الشعر التي حظيت بعناية خاصة.

بدأت أعمال التنقيب في الموقع، حسب المهندس حسن، منذ عام 1996 من قبل فرق فنية مختصة، ونظرًا لأهميته استمرت الأعمال الموسمية حتى عام 2024، ولكن بشكل متقطع بسبب عدم توفر الاعتمادات المالية اللازمة. وقد أسفرت عمليات التنقيب الموسمية عن الكشف عن العديد من المدافن العائلية المميزة والهامة، بالإضافة إلى اكتشاف درج منحوت في الصخر الكلسي يقع ضمن جرف صخري كبير، وبقايا لأحواض صغيرة منحوتة في الصخر، وجرن حجري دائري الشكل في القسم الشرقي من هذا الجرف يرتكز على قاعدة حجرية متخربة في جزئها الشرقي والجنوبي الشرقي يعتقد أنه تابع لمعصرة، بالإضافة إلى حجر دائري عليه إفريز على كامل المحيط لتسهيل مرور السائل منه. كما عُثر على ثلاثة حجارة كبيرة متموضعة في غير مكانها وعليها ثقوب مختلفة إلى الغرب من المعصرة، مما يدل على أن الموقع تعرض للعبث.

مشاركة المقال: