يواجه القطاع المصرفي السوري أزمة هي الأعقد منذ تأسيسه، وذلك عقب قرار مصرف سورية المركزي بتكوين مخصصات كاملة لتغطية الخسائر الناجمة عن الانهيار المالي في لبنان. ورغم تضارب التقديرات حول حجم هذه الأموال، والتي تتراوح بين 3 و42 مليار دولار وفقًا لمصادر مختلفة، أكد حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، أن المبلغ لا يقل عن 1.6 مليار دولار، وهو حجم الانكشاف المالي على القطاع المصرفي اللبناني، ويشمل التزامات قائمة وودائع لأفراد وشركات سورية مجمدة لدى المصارف اللبنانية. وقدّر بعض الاقتصاديين هذه الأموال بأكثر من 18.4 تريليون ليرة سورية، أي ما يتجاوز 60% من الموازنة العامة لعام 2024.
الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، صرح للوطن بأن هذه الأرقام تمثل صدمة حقيقية للنظام المالي الوطني، وتثير تساؤلات حول قدرة المصارف على استيعاب الخسائر والحفاظ على استقرار النظام النقدي في البلاد. وأوضح قوشجي أن المخصصات المتوقعة من المصارف تصل إلى 39% من هذه الأرصدة، مما يعني تحميل خسائر مباشرة على ميزانيات المصارف وتقليل قيمة الأصول المعرضة للخطر.
وبيّن أن هذه التداعيات ستظهر في انخفاض أسعار أسهم المصارف في سوق دمشق للأوراق المالية نتيجة لتسجيل خسائر محققة وتقليص توزيعات الأرباح، مما يضاعف الضرر للمستثمرين الذين تكبدوا خسائر بالفعل بسبب تجميد الودائع خارج البلاد. وأشار قوشجي إلى أن الآثار المباشرة على المصارف تتمثل في تآكل رأس المال نتيجة لحجز مخصصات تصل إلى 39%، مما سيؤدي إلى خفض صافي الأصول والتأثير على نسب كفاية رأس المال، وقد يدفع بعض البنوك إلى عدم الامتثال لمتطلبات رأس المال التنظيمية. كما ستتقلص السيولة بسبب تصفية أو شطب الودائع الخارجية، مما يزيد الضغط على السيولة المحلية ويضعف قدرة المصارف على تمويل القروض قصيرة الأجل.
وأضاف أن الأوضاع الحالية ستؤدي إلى زيادة الأصول المتعثرة وتبني المصارف سياسة أكثر تحفظًا في منح التمويلات الجديدة، مما يضعف النشاط الاقتصادي. أما على صعيد السوق المالية، فإن الخسائر المسجلة ستؤدي إلى انخفاض أسعار أسهم المصارف، مما يجعل أي عملية إعادة رسملة عبر طرح أسهم جديدة مكلفة أو شبه مستحيلة دون دعم حكومي.
وأوضح أن الآثار الماكرو اقتصادية والمالية ستكون واسعة، إذ سيؤدي تقلص القناة المصرفية للتمويل إلى إضعاف الاستثمار الخاص وتعطيل التعافي الاقتصادي. كما أن تآكل ثقة الجمهور قد يدفع المودعين إلى سحب ودائعهم أو تحويلها إلى أصول بديلة كالنقد الأجنبي أو الذهب، مما يفاقم الطلب على الدولار ويدفعه نحو مستويات مقلقة.
وبيّن أن تدهور سوق رأس المال المحلي يعني خسائر مزدوجة للمستثمرين نتيجة لفقدان الودائع وتراجع قيمة الأسهم، مما يؤدي إلى انخفاض السيولة في بورصة دمشق وتراجع قدرة الشركات المصرفية على تعبئة الموارد. كذلك، فإن تأثير هذه الخسائر على المالية العامة خطير، إذ إن فقدان مرجع قيمي يعادل نسبة كبيرة من الموازنة سيعيد فتح نقاشات حول تدابير مالية طارئة وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام.
وطرح قوشجي بدائل عملية لتعويض الخسائر دون إعدام الودائع السورية في المصارف اللبنانية، من أبرزها: إعادة رسملة مستهدفة للمصارف المتأثرة عبر ضخ رسملة مباشرة من الخزينة العامة أو مساهمات استثنائية من المؤسسات المالية العامة، على أن تُربط بشروط حوكمة وشفافية ومراجعات مالية مستقلة. كما دعا إلى إصدار سندات تحويلية طويلة الأجل لتعويض رأس المال للمصارف بعوائد مناسبة تُسدد على مدى زمني طويل، مما يمنح البنوك مساحة للتعافي.
وأشار إلى أهمية دور الحكومة كضامن جزئي عبر منح ضمانات سيادية للتصفيات أو استرداد الأصول، وفتح قنوات تفاوضية مع نظيرات لبنانية أو أطراف ثالثة لاسترداد أو إعادة هيكلة الأرصدة المتضررة. كما دعا إلى تحويل الخسائر إلى أصول وطنية قابلة للتنمية، من خلال مبادلتها بحقوق أو مشاريع بنية تحتية تحقق عوائد مستقبلية. وبيّن قوشجي أهمية إنشاء سوق ثانوي لبيع محفظة الموجودات المتضررة لمستثمرين متخصصين يمنح المصارف سيولة آنية ويخفض مستوى المخاطر. كما شدد على ضرورة حماية المودعين الصغار من خلال ضمان حكومي مؤقت أو برامج دعم مباشر لتجنب ذعر السحب.
وفيما يخص الخطوات التنفيذية، أوضح قوشجي أن الخطة يجب أن تُقسم إلى مراحل: خطة عاجلة خلال ثلاثة أشهر تتضمن الإفصاح الكامل عن حجم التعرض والخسائر، وتفعيل خط تمويل طارئ من المصرف المركزي، وحماية ودائع الأفراد الصغيرة فوراً. وخطة متوسطة من 3 إلى 12 شهراً تشمل تصميم وإصدار سندات تحويلية وبدء عملية إعادة الرسملة، إضافة إلى إطلاق آليات تسوية قانونية مع المصارف اللبنانية. أما على المدى الطويل، فتكون بين 12 و36 شهراً، وتتضمن إصلاح الإطار التنظيمي وإعادة هيكلة إدارة المخاطر الدولية وتعزيز عمق سوق رأس المال المحلي.
وأضاف أن تطبيق آليات إعادة الرسملة والسندات التحويلية سيحد من الانهيار الحاد في أسعار أسهم المصارف، بينما سيساعد على حماية المودعين الصغار من تقليل موجة سحب الودائع ومنع تآكل السيولة المصرفية. كما أن زيادة الشفافية والإفصاح المالي يمنح المستثمرين رؤية أوضح لآفاق التعافي، مما يعزز استقرار السوق على المدى المتوسط.
وحذّر قوشجي من وجود مخاطر وقيود تواجه تنفيذ هذه الإجراءات، أبرزها محدودية القدرة المالية للحكومة لتغطية خسارة تعادل 60% من الموازنة، وارتفاع تكلفة التمويل الخارجي، إضافة إلى ضرورة توافر مصداقية مؤسسية لتطبيق معايير الحوكمة والرقابة.
واختتم الدكتور إبراهيم نافع قوشجي بالتأكيد على أن الحل يكمن في التدرج في التعويض وليس التعويض الفوري الكامل، مع التركيز على حماية الفئات الضعيفة، والالتزام بأعلى درجات الشفافية في الإفصاح المالي، وتنويع أدوات السوق لامتصاص الصدمات المستقبلية. وشدد على أن تطبيق هذه الحزمة المتكاملة يمكن أن يمنع انهيار النظام المالي، ويحمي المودعين، ويعيد بناء الثقة تدريجياً في القطاع المصرفي وسوق الأوراق المالية، دون الإضرار بالتوازن المالي للدولة.
محمد راكان مصطفى _ الوطن