الثلاثاء, 18 نوفمبر 2025 12:45 PM

تحليل: الانتخابات العراقية وتكريس الحلقة الطائفية المفرغة

تحليل: الانتخابات العراقية وتكريس الحلقة الطائفية المفرغة

بقلم: علاء اللامي - أسدل الستار على الانتخابات التشريعية العراقية السادسة قبل أيام قليلة، وكشفت النتائج، التي توقعها أغلب المراقبين، عن استمرار "العملية السياسية" التي بدأت بعد عامين من احتلال العراق، في الدوران في الحلقة المكوناتية المفرغة التي صممها الاحتلال الأميركي. ومع ذلك، فقد أفرزت الانتخابات بعض المستجدات الثانوية.

حسابات الحقل والبيدر:

شهدت الانتخابات زيادة في الوزن الانتخابي لبعض الفصائل المسلحة الشيعية، حيث قفز محصول حركة "عصائب أهل الحق" وذراعها النيابية "كتلة صادقون" من 16 مقعداً إلى 27 مقعداً، مما جعلها بثقل حزب قديم كحزب بارزاني "الديمقراطي الكردستاني"، واقتربت من نتائج تحالف نوري المالكي "دولة القانون" ذي الثلاثين مقعداً. وحافظ حزب طالباني على قوته النيابية، كما حافظت الأحزاب والقوى الصغيرة الكردية على حجمها وهو ثلث ما حصل عليه المكوّن رغم حملات الاضطهاد والقمع الشديدين التي شنّتها سلطات الحزبين العائليين في عموم الإقليم ضد المعارضة.

ربط بعض المحللين بين هذه النتائج الجيدة لحركة قيس الخزعلي (زعيم "العصائب") وتصريحاته التصالحية مع الإدارة الأميركية قبل أيام قليلة ودعوته لفتح باب الاستثمار في الميدان النفطي العراقي لشركاتها. وهو أمر بدأت به فعلاً حكومة السوداني المنصرفة قبل بضعة أسابيع، والتي أصبح تحالف رئيسها محمد السوداني "الإعمار والتنمية" الكتلة الأكبر داخل أحزاب الطائفة الشيعية بـ 45 مقعداً.

ففي الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أعلن السوداني عن توقيع عقود مبدئية من نوع "مشاركة في الإنتاج والأرباح" مع شركة "إكسون موبيل" الأميركية لأول مرة في العراق. وكان هذا النوع من العقود النفطية مرفوضاً ويُعتبر غير دستوري لأنه يتقاسم ثروات العراق مع جهات أجنبية، وهو أمر مخالف لمنطوق المادة 111 من الدستور العراقي التي تقول: «النفط والغاز ملك الشعب العراقي حصراً»، حيث دأبت الحكومات السابقة على توقيع عقود تُسمى "عقود خدمات" مع تلك الشركات.

كما حصلت منظمة "بدر" بزعامة هادي العامري على مقعدين جديدين إضافيين فصار لديها 19 مقعداً. أما أحزاب مكوّن العرب السنة فقد خسر تحالف رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي واسمه "تقدّم" عشرة مقاعد، ولكنه ظل القوة البرلمانية الأولى في هذا المكوّن وخسر منافسه تحالف خميس الخنجر "عزم" مقعدين وبقي له تسعة مقاعد. وفشل في البقاء في المجلس النيابي أو بالعودة إليه عدد من الوجوه المعروفة كالدكتور سليم الجبوري رئيس المجلس الأسبق ومحمود المشهداني رئيسه الحالي وأسماء أخرى معروفة ومشهورة.

وقد مُنيَ الحزبان الكرديان الكبيران الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني في المحافظتين المختلطتين قومياً نينوى (خسر البارزاني فيها نصف مقاعده) وكركوك (فقد الحزبان فيها الغالبية النيابية). وكان أكبر الخاسرين ما سُمي التيار المدني الذي يقوده عدنان الزرفي (حامل الجنسية الأميركية والعضو في حزب ترامب الجمهوري)، ويشارك فيه الحزب الشيوعي حيث فشل هذا التحالف في إيصال أيّ من مرشحيه إلى مجلس النواب.

نسبة مشاركة مريبة:

سُجّل ارتفاع مفاجئ وغير معلّل في نسبة المشاركة في هذه الانتخابات حيث بلغت في آخر أرقامها الرسمية 55% بعد أن كانت 42% في الانتخابات السابقة. إن هذا الارتفاع في نسبة المشاركة مثير للارتياب والشك وقد يكون نتيجة للتلاعب الذي قامت به القوى السياسية النافذة والمؤسّسة للعملية السياسية.

ما الدليل على ذلك؟

رغم مقاطعة أكبر أحزاب النظام – والمكوّن الشيعي معاً – أي التيار الصدري، والذي فاز بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب سنة 2021، وهو 72 مقعداً، وتُمثّل عشرين في المئة من مجموع مقاعد المجلس البالغ 329 مقعداً؛ وعلى الرغم من فشل الحكومة الحالية في تنفيذ معظم فقرات برنامجها، وتفريطها في العديد من الثوابت والمصالح الوطنية ومنها:

  • التفريط في السيادة الوطنية على النهرين دجلة والفرات لمصلحة تركيا بموجب الاتفاقية المائية الجديدة التي لم تنص صراحة على ضمان حصة عراقية عادلة من مياههما وأوكلت إدارة المياه في العراق إلى دولة أجنبية هي تركيا.
  • التفريط في خور عبد الله للكويت.
  • تسليم نفط حقل «مجنون» الجنوبي، أكبر حقل نفطي في العالم باحتياطي يُقدّر بـ 58 مليار برميل من النفط الخام و38 تريليون قدم مكعّبة من الغاز لعملاق النفط الأميركي «إكسون موبيل».
  • تسليم إدارة ميناء الفاو حتى قبل أن يكتمل إنشاؤه إلى شركات إماراتية قد لا تخلو من أصابع الكيان الصهيوني.

ورغم الزيادة السكانية السنوية (1.2 مليون ومئتا ألف نسمة سنوياً)، التي أضافت على الأقل مليوني ناخب جديد خلال أربع سنوات، فقد انخفض عدد الذين حدَّثوا بطاقاتهم الانتخابية من 22 مليوناً سنة 2021 إلى 20 مليوناً سنة 2025، وقفزت نسبة المشاركة من 42 إلى 55%. فكيف حدث ذلك؟

وبخصوص نسبة المشاركة أيضاً، نسجّل الآتي: في جميع دول العالم التي تأخذ بالانتخابات التعدّدية، تؤخذ نسبة المشاركين في الانتخاب والتصويت من مجموع «من يحق لهم التصويت» إلا في عراق المحاصصة الطائفية، فهنا تؤخذ النسبة من أصل مجموع من حدّثوا بطاقاتهم الانتخابية!

معنى ما تقدّم، وحتى لو أخذنا بأرقام المفوّضية الرسمية واعتبرناها صحيحة وهي ليست كذلك قطعاً، فإن حياة ومستقبل 44 مليون عراقي سيتحكم فيهما 12 مليون ناخب فقط شاركوا في التصويت، علماً أن هذا التحكم مُفرَّغ من المحتوى، فالحكام الحاليون لا علاقة لهم بالإرادة الشعبية ولا حتى بالبرلمان المُنتخب الذي منحهم الشرعية بل هو يدار من خلال توافقات واتفاقات وصفقات تُعقد في الحدائق والمزارع الخاصة بالرؤساء السابقين والحاليين.

مفوّضية الانتخابات المستقلّة ليست كذلك:

يقول تعريف مفوّضية الانتخابات في العراق إنها «هيئة حكومية عراقية، مهنية، مستقلّة، ومحايدة». أما عملياً فإن مجلس النواب، وعبر اجتماعات خاصة لرؤساء الكتل النيابية الحزبية، هو الذي يشكّل ويحدّد مهام المفوّضية ثم يطرح مشروع قانون خاص بها والمُقترَح أصلاً كمسوّدة مشروع من قبل الحكومة المشكّلة على أساس المحاصصة الطائفية أيضاً، على التصويت العام في المجلس. يتم التصويت بعد أن تتوافق الكتل الكبرى على جميع تفاصيل مشروع القانون أو تعديل القانون النافذ وتشكيلات المفوّضية وأسماء أعضاء مجلس أمنائها وهم تسعة أعضاء ترشّحهم الكتل الكبيرة من المستقلين اسماً والتابعين سرّاً أو ممالئين لهذه الكتل وفق النسب المكوّناتية السائدة.

هذه الحصص والنِّسب والمحاصصة برمّتها لا وجود لها في دستور النظام، رغم أنه دستور بالغ السوء. ولكنها تكرّست وصارت عرفاً أقوى أحياناً من القانون الدستوري. وصار يؤخذ بهذه النسب في الصغيرة والكبيرة من تعيينات السفراء إلى المدراء، والمدراء العامين، والوزراء، والرئاسات الثلاث، وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، وأعضاء المحكمة الاتحادية. حتى قال أحد المسؤولين غير مازحٍ ذات مرة، إن المحاصصة الطائفية والحزبية تشمل كل المناصب في الدولة بدءاً من بوّاب الوزارة والشايجي وصولاً إلى الرئاسات الثلاث!

إنّ زاعمي تمثيل الطوائف، وقد أحكموا سيطرتهم على مفوّضية الانتخابات وتقاسموا حصصهم من المراقبين والوكلاء ومن التصويت الخاص، أصبحوا يتحكّمون فعلاً وبدرجة كبيرة بنتائج الانتخابات. وما يقوله السيد مسعود بارزاني مستنكراً من أن الانتخابات المحددة النتائج سلفاً بسبب التلاعب صحيح تماماً، ولكن لا يحق له التباكي والاستنكار الآن بعد أن خاض غمار ست دورات انتخابية طوال عقدين ولم يشكُ أو يحتج أو يطالب بالتغيير والإصلاح. وربما نجد سبب شكواه في مكان آخر هو النتائج الضعيفة التي سجّلها حزبه وحلفاؤه.

الحيتان السياسية تصادر مئة مقعد مُقدَّماً:

ربما اعتبر البعض تصريح مسعود البارزاني عن أن الانتخابات الأخيرة حُدّدت نتائجها مُقدّماً، وتصريح المرشح الشيوعي رائد فهمي، عن أن الأحزاب الكبرى ضمنت مُقدّماً اقتسام مئة مقعد برلماني، نوعاً من تصريحات خاسرين لا يعوّل عليها. ولكن التدقيق في ما طرحه فهمي (قبل ظهور النتائج) وآخرون من أدلة وأرقام كل ذلك يجعلنا نفهم الدرجة المذهلة التي بلغها التزوير غير المباشر والتلاعب المباشر والمغلّف بغشاء شرعي رقيق.

من الواضح أن المال السياسي لعب دوراً مهماً في شراء الأصوات كما يقول السيد فهمي ونتفق معه على ذلك وعلى إمكانية التزوير عبر التحكّم والتلاعب بمحرّكات البحث (سيرفرات) التي تدير أجهزة الفرز وحساب الأصوات. أما بالنسبة إلى موضوع تدخّل عامل السلاح فقد كان مبالغاً فيه كثيراً إن لم يكن مختلقاً، خصوصاً من قبل المتحاملين على الفصائل المسلحة المناهضة للاحتلال الأميركي فقط وليس على جميع الفصائل المسلّحة التي لا تخضع لإمرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية كقوات البيشمركة الكردية.

بالعودة إلى تصريحات مرشح اليسار رائد فهمي نجد أنه يعتقد أن الأحزاب الكبيرة والمتنفّذة استطاعت أن تضمن 100 مقعد برلماني مُقدّماً: «أولاً عندما وافقت المفوّضية المستقلة للانتخابات على ترشيح مليوني مراقب انتخابي، هذا رقم رسمي، وهؤلاء مصوّتون وهذا شكل من أشكال بيع الأصوات، ويضمنون ما يقرب من 40 إلى 50 مقعداً برلمانياً».

ولا أدري إنْ كان المتحدّث بالغ أو أخطأ سهواً في الرقم هنا، وهو المعروف برصانة معلوماته عموماً، أم أن لديه مصدراً خاصاً لهذه المعلومة لم أتوصل إليه. لقد بحثت عن عدد المراقبين في موقع المفوّضية وخارجه فلم أجد إلا تصريحاً للسيدة جمانة الغلاي المتحدثة باسم المفوّضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، قالت: «سيشارك أكثر من 1500 مراقب دولي، فضلاً عن قرابة 150 ألف مراقب محلي، في مراقبة الاقتراع، إلى جانب نحو نصف مليون مراقب، من وكلاء الأحزاب السياسية المختلفة المتنافسة». أي إن مجموع المراقبين المحليين هو 650 ألف مراقب ووكيل حزبي كلهم يصوّتون تلقائياً لأحزابهم التي عيّنتهم كمراقبين ووكلاء، هم ومَن يستطيعون إقناعهم معهم. ويبقى الرقم كبيراً خصوصاً في حالات ضعف إقبال الناخبين. والراجح عندي أن عدد المراقبين قد يصل إلى مليون مراقب ووكيل حزبي.

ويتابع المتحدّث فيقول: «ثانياً، هناك التصويت الخاص الذي يضمن للأحزاب الكبيرة أكثر من 50 مقعداً وهذا يعني أن الأحزاب المتنفّذة ضمنت، قبل فرز الأصوات وظهور النتائج أكثر من 100 مقعد، وهذه أساليب ظاهرياً تُعتبر شرعية وأمّنت لهم شبكة ضمان لمستوى معيّن جعلتهم ليسوا بحاجة إلى التزوير والتلاعب بنتائج التصويت». والتصويت الخاص يشترك فيه عادة أفراد الجيش والشرطة وغالبيتهم الساحقة من المدمجين الحزبيين أو من الحزبيين والموالين يصل عديدهم إلى مليون وثلاثمئة ألف صوت وفاقت نسبة التصويت عندهم الثمانين في المئة.

سانت ليغو بأنياب طائفية:

تُعرّف آلية «سانت ليغو» بأنها إحدى طرق توزيع المقاعد على القوائم الانتخابية المتنافِسة. ابتُكرت هذه الآلية سنة 1912 من قبل عالم الرياضيات الفرنسي أندريه سانت ليغو، وبدأ تطبيقها في خمسينيات القرن الماضي في النرويج والسويد ولكنها لم تُطبق قط في الانتخابات الفرنسية.

أصرَّ واضعو قانون الانتخابات العراقي على أن تكون وفق طريقة حساب سانت ليغو المعدَّلة، أي وفق نسبة واحد فاصلة سبعة، والتي لا تأخذ بها أي دولة في العالم، بدلاً من واحد فاصلة صفر كما هي الحالة الأصل، أو حتى واحد فاصلة أربعة كما هي الحال في نيوزيلندا والنرويج والسويد وقد أُخذ بها في العراق في الانتخابات ما قبل الأخيرة ثم رُفعت النسبة إلى واحد فاصلة سبعة لقطع الطريق نهائياً على أي قوى مستقلّة صغيرة، وتكبير حصة الأحزاب الكبيرة وإهدار المزيد من أصوات الناخبين.

وبقليل من التدقيق وبتقسيم نتائج الانتخابات التي حازتها كل قائمة انتخابية على العامل واحد ثم على العامل واحد فاصل سبعة ومقارنة الفرق بينهما نفهم بيسر لماذا ربحت الأحزاب الكبيرة وخسرت القوائم الصغيرة والشخصيات المستقلة، وكم هي الأصوات التي ذهبت هباء بنتيجتها، وكيف – على سبيل المثال لا الحصر – فشل المرشح رائد المالكي في الحصول على مقعد برلماني رغم أنه حصل على أكثر من 12 ألف صوت في حين فازت مرشحة حزبية هي حنان الفتلاوي بمقعد نيابي مع أنها حصلت على سبعة آلاف صوت. يبدو أن أهل الحكم قرروا أن يشطبوا على هذا «الترف» الديمقراطي البسيط برفع عامل التقسيم إلى (1.7) فأسقطوا المنافسين الصغار الحجم وبقيت الحيتان وحدَها في حوض السباحة الأميركي.

خلاصة:

إنَّ المنظومة الحاكمة في العراق، قد استقر بها المقام على هذه الآليات والقوانين الانتخابية التي تطيل من عمرها وتضمن لها ممارسة هيمنتها على الحكم. وهذا يعني في ما يعني ترسيخ الطائفية السياسية والتبعية للخارج -الغربي قبل غيره – وأن العراق كلّما ترسّخت الطائفية السياسية فيه اقترب أكثر من هاوية التقسيم الكياني إلى دويلات طائفية قائمة فعلاً على الأرض ولا ينقصها سوى تبادل الاعترافات، ومن ثم التلاشي الحضاري للعراق التاريخي.

إن الخيار الممكن والوحيد أمام القوى الاستقلالية والتقدّمية وفي طليعتها الاشتراكيون الثوريون الحقيقيون مواصلة العمل والكفاح الشعبي السلمي الواسع النطاق من أجل تفكيك منظومة الحكم الطائفية التوافقية الرجعية المحمية من قبل الأجنبي وإعادة كتابة الدستور المكوّناتي لإنقاذ العراق وشعبه من براثن التردّي والتقسيم والنهب المنهجي لثرواته.

*كاتب عراقي

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

مشاركة المقال: