منذ بدايتها في عام 2016 مع مجموعة "الغريب" (دار سوريانا)، مروراً بمجموعتي "عالٍ هذا السرج" (2018) و"تيمنا بالورد" (2021) الصادرتين عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وصولاً إلى "نذورٌ للغزال" الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب، تواصل الشاعرة سعاد محمد رحلتها الشعرية.
في مجموعتها "نذور للغزال"، تقدم سعاد محمد عالماً شعرياً عميقاً يستكشف الوجود الإنساني بتناقضاته وأسئلته. تمثل نصوص المجموعة نموذجاً للشعر الذي يجمع بين جمال اللغة وعمق الرؤية، وبين المجاز والحفر في طبقات الوعي.
العنوان "نذورٌ للغزال" يشكل مدخلاً دلالياً لعوالم النصوص. فكلمة "النذور" تحيل إلى الطقوس والوعود المقدسة، بينما يرمز "الغزال" إلى الجمال والرشاقة، وإلى الحبيبة في التراث الشعري العربي. هذا المزيج يضع القارئ أمام شعرية تستدعي التأمل.
تعتمد سعاد محمد في نصوصها على ثنائيات متضادة تكشف عن رؤيتها للوجود الإنساني، كالطفولة والوعي، حيث تفتتح المجموعة بصورة الطفل الذي ظن أعواد الثقاب فراشات، لتمثل البراءة التي تدفع ثمن وعيها بالواقع. كما يتجلى الصراع مع الزمن في قولها: "نرمي الأمس كمعطفٍ قديم، ونرتمي في حضن الغد، وكلُّ غد لم يكن أوسع من شرنقة".
تبرز في النصوص استعارات تعكس التمزق بين العالم المادي والعالم الروحي، فـ"نحن سكان هذه البقعة الشعورية" تعبير عن الوعي بالذات المفكرة التي تعيش في حيز خاص، منفصل عن الواقع المادي.
تمتلك سعاد محمد لغة شعرية متميزة تقوم على الانزياح والمفارقة، وتستخدم صوراً مدهشة تخلق علاقات جديدة بين الأشياء، مثل: "الملح على خد السكر بدعة"، و"الزهور راهبات"، و"خصر الماء ديراً".
تتكرر في نصوص "نذورٌ للغزال" مفردات الهروب والاغتراب، لكن الهروب هنا ليس مجرد عزوف، بل بحث عن الذات الحقيقية التي تريد التخلص من القيود. ومع ذلك، تدرك الشاعرة أن الهروب لا يعني التمرد الكلي.
تمثل علاقة الحب في المجموعة ميداناً للصراع والبحث عن المعنى، فالحب يظهر كقوة مزدوجة: منقذة ومهدمة في آن. كما تكشف النصوص عن صوت أنثوي متميز يعي ذاته وإمكاناته، ولا تقدم الشاعرة صورة المرأة ككائن سلبي، بل كذات فاعلة تبحث عن تحقيق وجودها ورغباتها.
يمثل الموت حضوراً خفياً في النصوص، ليس كفناء بل كجزء من دورة الوجود، فـ"بشاشة المقبرة" تظهر كموازنة لـ"عبوس اللحظة".
تعيد سعاد محمد صياغة العلاقة مع الزمن، فتصور الأمس كمعطف قديم يمكن التخلص منه، والغد كحضن نرتمي فيه، لكنه يتحول إلى شرنقة ضيقة.
تمثل "نذورٌ للغزال" نموذجاً لشعرية الوجود المأزوم، التي تبحث عن المعنى في عالم مفكك. لغة سعاد محمد تتحرك بين الواقعي والمجازي، بين المادي والروحي، بين الذاتي والكوني. إنها تكتب بوعي حاد بتناقضات الوجود، محاولة أن تخلق من هذا التناقض جمالاً شعرياً يليق بإنسانية الإنسان.
في الختام، تبقى "نذورٌ للغزال" شاهدة على قدرة الشعر السوري المعاصر على المزاوجة بين الأصالة والحداثة، بين جمالية اللغة وعمق الرؤيا، لتقدم للقارئ عالماً شعرياً يستحق التأمل.