الأربعاء, 26 نوفمبر 2025 01:01 AM

سوريا على مفترق طرق اقتصادي: هل من الممكن إعادة القيود بعد رفع الدعم؟

سوريا على مفترق طرق اقتصادي: هل من الممكن إعادة القيود بعد رفع الدعم؟

مع اتجاه النظام في سوريا نحو رفع الدعم عن الخدمات الأساسية، تتضح معالم الهوية الاقتصادية الجديدة. ففي الأشهر التي تلت سقوط النظام السابق، كانت الانعطافة الاقتصادية لا تزال في بدايتها، حيث اقتصر التحرير الاقتصادي على السياسة النقدية الانكماشية، والتي هدفت إلى تقليل السيولة، والاقتصاد في طباعة العملة، وتقليص حجم العاملين في القطاعين العام والمشترك، بهدف خفض الطلب على العملة الأجنبية والسلع والخدمات إلى الحد الأدنى، للحفاظ على سعر الصرف تحت السيطرة، حتى مع خضوعه نظرياً لمنطق العرض والطلب.

كانت هذه الإجراءات تهدف إلى تمهيد الطريق أمام خصخصة المرافق الخدمية التابعة للدولة، ونقلها إلى أيدي داعمي الاقتصاد الحر، سواء كانوا داخل البلاد أو في بعثات البنك وصندوق النقد الدوليين.

لطالما كان نقل وجهة الاقتصاد السوري بمثابة عامل تفجير للبنية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، حتى في ذروة الاستقرار السياسي المصحوب بتمثيل ديمقراطي نسبي ومحدود. فالفترة بين انتهاء آخر انقلاب عسكري في عام 1954 بقيادة أديب الشيشكلي والوحدة مع مصر، شهدت حراكاً اقتصادياً واجتماعياً مناهضاً لسياسات تحرير الاقتصاد والتجارة والخدمات، لدرجة يمكن اعتبار هذه التحركات عاملاً مساعداً في التسريع بالوحدة.

النموذج الذي قدمته مصر منذ عام 1952 مع عبد الناصر، كان ملهماً للساسة السوريين، ليس فقط بسبب غياب الانقسامات السياسية، بل أيضاً لأن المضمون الاشتراكي فيه كان يقدم حلاً للاستعصاءات الطبقية التي تعيق عمل أي نظام تمثيلي.

قبل الوحدة بسنوات، أبدت حكومات خالد العظم حساسية لقضايا مثل الملكية ودعم الفلاحين والعمال، وتقديم تسهيلات للفئات الضعيفة، دون أن تتمكن من حل المشكلات تماماً، لأنها لم تكن تعبيراً عن توجه اشتراكي جذري، بل محاولة لتفادي الذهاب نحو الاشتراكية. وهو ما جعلها تتعثر في مهمتها، لمصلحة الوحدة أولاً في عام 1958، ثم لمصلحة «البعث» في عام 1963.

قبل احتجاجات عام 2011، بدأت الهياكل الاشتراكية التي أُرسيت مع حكمي الوحدة و«البعث» في التدهور، ليس بسبب تقادم النموذج الاشتراكي، بل لأن «الإصلاحات الاقتصادية» التي أتى بها بشار الأسد، ابتداءً من عام 2000، كانت تحمل بذور إفناء النموذج. وتم تجاهل نصائح خبراء كبار مثل عصام الزعيم، لمصلحة الوجهة النيوليبرالية التي كان يقودها الفريق الاقتصادي المحيط به، والذي اعتقد أن تسريع التنمية يمر عبر نقل الخصخصة والتحرير الاقتصادي من الإدارة إلى الملكية.

الوتيرة التي حصل بها الأمر لم تكن بالسرعة التي نشهدها حالياً، وهو ما يفسر بقاء جل أصول الدولة السيادية ومرافقها بيد القطاع العام، واستمرار الدعم المقدم للسلع الأساسية والخدمات، والذي بدأ التراجع عنه تدريجياً، من غير أن يصل إلى مستوى المساس بسقوف الدعم جميعها تقريباً.

التحرير التدريجي، بهذا المعنى، يبقي على حد أدنى من الدعم، ومن قدرة الدولة على التحكم بأصولها ومواردها، بدلاً من تركها تتبدد تماماً، على شكل استحواذ ونقل للملكية من جانب القطاع الخاص المحلي والإقليمي والدولي. وهذا ما حافظ على الهياكل الأساسية للاقتصاد السوري طوال مدة الحرب، ولا سيما لجهة الإمساك دولتياً بالأصول الصناعية والتجارية والخدمية، وإبقاء الدعم على السلع والخدمات الأساسية.

الاعتراض الواضح الذي تعبر عنه شريحة كبرى من السوريين حالياً، هو نتاج هذه الانعطافة المفاجئة التي لا تجد في التاريخ السوري المعاصر ما يبررها، حتى حين كان الاقتصاد غير اشتراكي، أو حراً بالمعنى المتداول حالياً، وذلك في الحقبة التي سبقت حكم الوحدة في عام 1958. فالتركيبة الاجتماعية الاقتصادية للبلاد هي التي أملت هذا الاتجاه في العلاقة مع الاقتصاد السياسي، أكثر من توجهات القوى السياسية. فعبد الناصر نفسه لم يكن اشتراكياً قبل منعطف عام 1954، وكذلك الأمر ساسة سوريا الذين دعوه إلى ضم البلاد إلى الجمهورية المتحدة.

الذهاب باتجاه الاشتراكية كان تعبيراً عن حاجة تنموية ماسة لسوريا ومصر معاً، أكثر منه ملاقاة لتيار الاشتراكية الدولية العارم. وهذه البنية التي احتاجت إلى الاشتراكية حينها، لم تتغير بالقدر الذي يتيح حصول رسملة فيها بالطريقة التعسفية والعشوائية المطروحة اليوم. كان ذلك ممكناً فقط لو تُرك الاقتصاد السوري يتطور، كما حصل في مصر مثلاً، مع كل ما شاب التجربة هناك من ترسمُل مالي وعقاري، مصحوب بامتثال لوصفات صندوق النقد الدولي.

غير أن القطيعة التي أحدثتها الحرب، مع التراكم الذي تحقق للاقتصاد السوري تاريخياً، جعلت إمكانية حصول ترسمُل ممسوك في بنيته على الطريقتين المصرية والتونسية متعذرة بشدة. وأتت توجهات النظام الحالي، التي لا تتجاوز معرفته بالترسمُل والانتقال إلى اقتصاد السوق حدود تعويم الأصول السيادية والعملة الوطنية والخدمات والسلع الأساسية ورفع القيود الحمائية بالكامل عنها، لتضيف إلى هذه الاستحالة تعقيدات إضافية.

ويمكن القول، إن هذه التعقيدات تجعل من أي عودة عن الإجراءات تلك، عبر سياسات بديلة يكون فيها للقيود على الاستثمارات والتدفقات الرأسمالية والتصرف بالأصول وهياكل الدعم، دور مركزي في التنمية، أمراً في غاية الصعوبة. وذلك بغياب رقابة فعلية من المجتمع وقواه الحية ومعارضاته، على أداء السلطة، وتوجهاتها الاقتصادية الكارثية.

* كاتب سوري

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

مشاركة المقال: