الأربعاء, 26 نوفمبر 2025 10:27 AM

يهود العالم وإسرائيل: نظرة متغيرة وهوية تتجاوز الدولة

يهود العالم وإسرائيل: نظرة متغيرة وهوية تتجاوز الدولة

تقدم «إسرائيل» نفسها كـ «الدولة اليهودية» وملاذ آمن لليهود في جميع أنحاء العالم، لكن هذه الصورة لا تعكس بالضرورة الطريقة التي يرى بها العديد من اليهود أنفسهم الدولة. على الرغم من عقود من الهجرة والدعاية، لا تزال علاقة العديد من اليهود بإسرائيل معقدة، وتتميز بالتساؤلات والانتقادات، وبلغت ذروتها في رفض الحرب الإسرائيلية على غزة.

هذا الرفض، الذي قاده شباب «الجيل Z»، يكشف عن فجوة كبيرة بين ادعاءات الكيان والهوية اليهودية المتنوعة كما يراها أصحابها.

منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، كانت فكرة «يهودية الدولة» حجر الزاوية في المشروع الصهيوني، بغض النظر عن درجة هذه اليهودية ومضامينها، والتي كانت موضع نقاش بين تيارات معينة في الحركة الصهيونية، وبغض النظر عن تقديم الحركة الصهيونية نفسها كـ «حركة علمانية».

ولدت فكرة يهودية الدولة ليس فقط كهدف ديموغرافي، ولكن كأداة سياسية و«قانونية» لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية. في تموز 2003، اتخذ الكنيست الإسرائيلي قراراً يدعو إلى «تعميق فكرة يهودية الدولة وتعميمها على دول العالم»، معتبراً أن الضفة الغربية وقطاع غزة «ليسا أراضي محتلة، لا من الناحية التاريخية، ولا من ناحية القانون الدولي». هذا الموقف يعكس محاولة إسرائيل المنهجية لطمس الحقوق الفلسطينية وتكريس السيطرة على الأرض.

يمكن فهم الأهداف الكامنة وراء شعار «يهودية الدولة» من خلال:

  • إنهاء حق العودة: الاعتراف بـ «يهودية إسرائيل» يغلق الباب أمام حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، ويساعد في شطب القرار الأممي 194 من جدول أعمال الأمم المتحدة.
  • تهميش الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة: من خلال سن قوانين الإقصاء والتهميش، وخاصة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، والتنكيل بفلسطينيي الضفة وغزة، والتركيز على «الهاجس الديموغرافي» بسبب الزيادة الطبيعية بين الفلسطينيين.
  • جذب اليهود كـ «مادة بشرية»: تعتبر الحركة الصهيونية و«إسرائيل» يهود العالم «المادة البشرية لتحقيق أهداف إسرائيل التوسعية وركيزة لاستمرار المشروع الصهيوني».

على الرغم من الدعاية المستمرة، فإن العلاقة بين يهود العالم وإسرائيل أكثر تعقيداً مما تصوره الرواية الإسرائيلية الرسمية. تشير الأرقام إلى أن أقل من نصف يهود العالم يعيشون في إسرائيل، حيث بلغت نسبتهم 46٪ فقط (7.2 ملايين من أصل 15.7 مليون يهودي) وفقاً لبيانات الوكالة اليهودية في أيلول 2023. كما كشف تقرير للكنيست أن أكثر من 82 ألف إسرائيلي غادروا الكيان بشكل دائم في عام 2024 فقط، لينضموا إلى عشرات الآلاف الذين فروا في 2023 عقب اندلاع الحرب على غزة.

تعكس هذه الفجوة بين الدعاية والواقع طبيعة الهوية اليهودية المعقدة، والتي لا يمكن اختزالها في الانتماء إلى «دولة إسرائيل». يمكن أن تكون الهوية اليهودية:

  • هوية دينية: تتبع التعاليم الدينية اليهودية.
  • هوية ثقافية: اتصال مع التراث الحضاري اليهودي من خلال اللغة والأدب والفن والموسيقى.
  • هوية قومية: تعتمد على الأصول والأسلاف لدى المعتقدين بوجود «مملكة إسرائيل التاريخية».

هذا التعدد يجعل من المستحيل اختزال الهوية اليهودية في الانتماء السياسي لإسرائيل. يرفض العديد من اليهود، وخاصة في الشتات، هذا الربط، وهناك تيارات يهودية تعتبر وجود «إسرائيل» وبالاً على اليهود أنفسهم، مثل ناطوري كارتا (Neturei Karta)، وهي حركة يهودية أرثوذكسية متشددة مناهضة للصهيونية تأسست في القدس عام 1938.

مع بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول 2023، بلغت القطيعة بين قطاعات واسعة من يهود العالم وإسرائيل ذروتها. أكدت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة أن «إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة»، ووجدت أن «الرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق قد حرضوا على ارتكاب الإبادة الجماعية».

قاد «جيل Z» تحولاً تاريخياً في الرأي العام العالمي، وخاصة بين اليهود أنفسهم. لم يعد هذا الجيل يتردد في انتقاد «إسرائيل» ووصف سياساتها بالفصل العنصري والإبادة الجماعية.

تشير استطلاعات الرأي إلى عمق هذه التحولات، إذ بلغت نسبة من يعتبرون «إسرائيل» دولة فصل عنصري 38٪ (تحت سن الأربعين)، مقابل 13٪ بين من هم فوق سن الرابعة والستين وفقاً لبيانات من منظمة يهود ديموقراطيين تقدميين عام 2021. كما أظهر استطلاع لمؤسسة «هاريس» أن 60٪ من شباب «جيل Z» يفضلون حماس على «إسرائيل»، بينما بلغت نسبة التأييد لـ «إسرائيل» بين من هم فوق 65 سنة 89٪.

لم تعد «إسرائيل» في نظر قطاعات متزايدة من يهود العالم تمثل الدولة اليهودية التي تدعيها، بل تحولت إلى دولة تفرض هيمنتها باسم يهودية مزعومة. كشفت جرائم غزة عن الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني، الذي لم يعد قادراً على إخفاء طابعه الاستعماري الاستيطاني.

اليوم، يرفض يهود العالم، وفي مقدمتهم شباب جيل Z أن تكون هويتهم ذريعة للإجرام، وأن تكون يهوديتهم غطاء لاحتلال واضطهاد شعب آخر. إنهم يفضلون هوية يهودية منفتحة وإنسانية، قائمة على القيم الأخلاقية الكونية، لا على الانتماء العرقي أو القومي الضيق.

نجح جيل Z في كسر الصورة النمطية لليهودي كمناصر تلقائياً لـ «إسرائيل» مهما فعلت، وأسقط أسطورة «المظلومية الإسرائيلية» و«معاداة السامية» التي استخدمتها دولة الاحتلال لتكميم أفواه الناقدين.

هذا الرفض اليهودي المتنامي لإسرائيل يبرز الآن كفرصة تاريخية لإعادة تعريف أساليب المواجهة، عبر الفصل الجذري بين معارضة الكيان الاستعماري الاستيطاني وبين العداء لليهود كجماعة بشرية أو كديانة.

فيما يشكل رفض الاحتلال ومؤسساته موقفاً أخلاقياً وسياسياً مشروعاً، تظل معاداة اليهود كيهود، انسياقاً وراء منطق عنصري يخدم المشروع الصهيوني نفسه، الذي يسعى دائماً إلى طمس الفارق الجوهري بين إدانة دولة الاحتلال كرأس حربة استعمارية، وبين الكراهية العرقية والدينية.

استخدمت «إسرائيل» معاداة السامية تاريخياً كذريعة لتبرير سياساتها، وكورقة توتير تستر جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. لذلك، فإن تمييز الخطاب النقدي الموجه للكيان الصهيوني عن أي شكل من أشكال العداء لليهودية، يمثل سلاحاً استراتيجياً في إسقاط هذه الذريعة وكشف حقيقة الصراع: أنه ليس صراعاً دينياً، بل مواجهة مع مشروع استعماري استيطاني يستخدم الدين غطاءً لأطماعه التوسعية.

كلما ارتفع صوت اليهود أنفسهم رافضين لدولة الاحتلال، تأكدت شرعية النضال ضد الاحتلال، وانهارت المقولات الصهيونية التي تسعى إلى اختزال اليهودية في الدفاع عن دولة الاحتلال.

إن تضامن شرائح واسعة من يهود العالم مع الحق الفلسطيني، يثبت أن العدالة قضية إنسانية أممية، تتجاوز الانتماءات الدينية والعرقية الضيقة. ويقتضي تعزيز هذا التوجه بناء تحالفات إنسانية عابرة للهويات، تركز على القيم المشتركة من كرامة وحرية ومساواة، وتفكك الإطار الصهيوني الذي يسعى إلى حشر الجميع في صناديق هوياتية مغلقة.

هذه الرؤية التحررية هي التي يمكن أن تحول الصراع من مواجهة دينية أو عرقية، إلى كفاح سياسي وإنساني ضد نظام فصل عنصري واحتلال استيطاني، ما يوسع قاعدة التضامن العالمي ويحرم الاحتلال من أي غطاء أخلاقي أو سياسي.

هذا التحوّل التاريخي في نظرة نسبة كبيرة من يهود العالم، ولا سيما في أوساط جيل الشباب، معطوفاً على التضامن الشعبي العارم مع فلسطين الذي شهدته معظم عواصم العالم ومدنه، يستدعي تقديم أولوية النضال الإنساني الأممي على ما عداها، باعتبار تحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال قضية تعني كل إنسان حرّ في معزل عن دينه وعرقه وجنسه وجنسيته.

مشاركة المقال: