كتب المحامي كارول سابا:
"بهذه العلامة تنتصر!" هكذا رأى الإمبراطور قسطنطين علامة الصليب، فوضعها على دروع جيشه وانتصر بها على ماكسانس في معركة جسر ميلفيوس عام 312، بالقرب من روما. كانت هذه بداية تأسيس الإمبراطورية البيزنطية في الشرق، مهد الإيمان المسيحي. هذا التحول الجيوسياسي غيّر خريطة العالم ورفع الحصار عن الكنيسة الذي فرضه الإمبراطور ديوكليسيان. في عام 313، وقّع قسطنطين على وثيقة ميلان، التي أنهت اضطهاد المسيحيين واعترفت بالكنيسة، محولاً إياها من كنيسة مضطهدة إلى كنيسة معترف بها. يعتبر إعلان ميلان أول علمانية في التاريخ، حيث اعترفت الدولة الإمبراطورية بالتعددية الدينية ونظمت علاقتها مع الأديان من منطلق "الانتظام العام" و"لخير الجميع".
مع توقف الاضطهاد، تنفست الكنيسة الصعداء، ولكن ظهرت أيضًا الهرطقات. آريوس، وهو كاهن من الإسكندرية، أطلق تعليمه المنحرف بأن المسيح ليس أزليًا. تصدى له رئيس أساقفة الإسكندرية، القديس ألكسندر الإسكندري، الذي دافع عن الإيمان النيقاوي في مجمع نيقية. لكن آريوس، بدعم من شخصيات مؤثرة في البلاط مثل اوزابويس النيقوميدي، استمر في نشر الهرطقة، مما أحدث بلبلة كبيرة في الإمبراطورية. دعا الإمبراطور قسطنطين آباء الكنيسة من جميع أنحاء العالم إلى مجمع نيقية عام 325 لحل هذا النزاع الديني الذي هدد السلم الأهلي، وللاتفاق على تاريخ موحد لعيد الفصح المجيد. عُقد المجمع في إزنيق التركية، المدينة التاريخية الأناضولية المعروفة ببحيرتها الجميلة القريبة من نيقوميدية.
في مجمع نيقية عام 325، لم يحضر بابا روما، لكنه أرسل ممثلين عنه، بالإضافة إلى الأسقف الإسباني أوسيوس الكوردوبي، الذي لعب دورًا مؤثرًا إلى جانب القديس ألكسندر الإسكندري، الذي رافقه شماسه الذي أصبح فيما بعد القديس أثناسيوس الإسكندري.
في نيقية 2025، وبدعوة من البطريرك المسكوني القسطنطيني برثولماوس، سيحضر بابا روما ليون الرابع عشر احتفالية نيقية، بعد 1700 عام على هذا المجمع المجيد. البابا ليون الرابع عشر هو البابا الخامس الذي يزور تركيا والبطريركية المسكونية، بعد بولس السادس، يوحنا بولس الثاني، بينيديكتوس السادس عشر، وفرنسيس. بدأت هذه الزيارات البابوية الرسولية منذ ستين عامًا، بعد رفع الحرمات في عام 1965. والبابا الجديد هو الثالث بعد يوحنا بولس الثاني وبينيديكتوس السادس عشر، الذي يزور لبنان.
تُعَد الزيارة البابوية في شقيها التركي واللبناني الاختبار الجيوسياسي الدبلوماسي الدولي الأول له كرئيس لدولة الفاتيكان. ففي لبنان، قد يقول البابا الجديد إنه لم يعد يجدي ترداد مقولة البابا يوحنا بولس الثاني بأن لبنان بلد رسالة إن لم يترجم ذلك اللبنانيون بصيغة فيها علمانية في سياقها المشرقي. أشار البابا بينيديكتوس إلى خشبة الخلاص في سينودوس الشرق الأوسط، حول العلمانية الإيجابية التي قد تجمع اللبنانيين بالوحدة والتنوع. فهل يذكرهم اليوم البابا ليون الرابع عشر بالمطلوب منهم؟
أما في تركيا، فسيُذَكِّر بخطابات أسلافه التي شددت على احترام قيم التعددية وحرية التعبير وحرية المعتقد والحريات الدينية والمدنية. في إسطنبول، سيزور البابا المسجد الأزرق الكبير، الذي هندسه المعماري الشهير سينان على قياس كاتدرائية آيغيا صوفيا، التي لن يزورها البابا ليون. وتركيا لها بعد تاريخي في الزيارات البابوية لكونها أرض بيزنطيا القديمة وأرض المجامع المسكونية السبعة.
الجديد المفصلي اليوم هو محورية تطور الدور والموقع التركي في آسيا الصغرى وآسيا الوسطى وسوريا ولبنان والشرق الأوسط، ووجودها في ضفة الأطلسي وعلى ضفة روسيا ومحور دول البريكس.
أما البعد المسكوني في زيارة تركيا، ففيه تحديان على الأقل. التحدي الأول هو الاختبار المسكوني الأول للبابا الجديد من خلال زيارة البطريركية المسكونية في الفنار في إسطنبول في عيد الكرسي الرسولي الأرثوذكسي، حيث سيتم التوقيع على إعلان مشترك بين روما والقسطنطينية. أما التحدي الثاني، فستُختبر فيه قدرة البابا الجديد على الموازنة بين علاقة الفاتيكان التقليدية مع كرسي القسطنطينية، وعلاقة روما مع كرسي موسكو، التي يحرص عليها البابا الجديد كما كان يحرص عليها البابا فرنسيس.
أما في احتفالية نيقية فستشارك الوفود الكنسية، ومنها وفد البطريركية الأرثوذكسية الأنطاكية التي شرفني غبطة أبينا البطريرك يوحنا العاشر الحبيب أن أكون في عداده، ستشارك البطريرك برثولماوس والبابا ليون الرابع عشر، مع الوفود الرسمية، في احتفالية نيقية في المكان الذي يشهد على بقايا أطلال البازيليك القديمة، بازليك القديس نيوفيطوس قرب البحيرة الشهيرة على مقربة من قصر الإمبراطور حيث عقد المجمع المسكوني الأول.
أرثوذكسيًا، هناك من يضع هذه الاحتفالية في إطار شكلي بحت، وينتقد مشاركة الكراسي الأرثوذكسية بها، في ظل النزاعات والتفككات الأرثوذكسية الحالية. بالطبع، الانقسامات الأرثوذكسية مؤلمة، ولكن لها أسبابها الموجبة وحيثياتها المؤسفة التي يجب مقاربتها بروح الإنجيل وبوعي لجدلية المهم والأهم، وباقتحامية جريئة وبناءة. ويذهب هذا البعض في التحليل إلى أبعد من ذلك، فيجعل من هذه الاحتفالية أداة لمؤامرة على المجمعية الأرثوذكسية وتأكيد لأولية أرثوذكسية من نوع آخر تجعل من بطريرك القسطنطينية أول دون متساوين، وليس أول بين متساوين، كما هي الحال إلى اليوم وكما ستبقى، ويتهم من يشارك في احتفالية نيقية أنه يشارك بهذه المؤامرة.
مهلا يا سادة. علنا لا ننسى أن تاريخ الكنيسة كله كان تاريخ انقسامات ونزاعات، يقابلها مستقيمو الرأي بتحديات شهادة الإيمان المستقيم والتمسك بالكنائسيات الصحيحة كما حددها آباء الكنيسة والمجامع المسكونية. وعلنا لا ننسى أن أنطاكية التي تعرف جدلية المهم والأهم منذ البطريرك بطرس الثالث الذي أنَّبَ في ١٠٥٤ بابا رومية وبطريرك القسطنطينية على السواء، مذكرا إياهما بجدلية المهم والاهم طالبا منهم أن لا يجعلوا من امور ليست عقائدية، تحجُّرات عقائدية، قد تستند الى واقع ظرفي، ولكن فيهاُ نفخٌ كبير بالأوهام. وعلنا لا ننسى ان انطاكية لم ولن تساوم على اي شبر من استقامة الرأي، ولا يؤخذ توقيعها على اي قرار بمجرد مشاركتها باحتفالية. وعلنا لا ننسى أيضا، ان قراءة عناصر وأسباب التفكك الأرثوذكسي، لكي تكون قراءة موضوعية، يجب ان تتم ليس بعين واحدة، بل بعينتان. فمسؤولية القطبين المتنافسين أساسية ويجب مراجعتها، ومسؤولية انكفاء الكنائس الأخرى أيضا كبيرة ويجب مراجعتها.
أخطار عالم اليوم تتطلب من الجميع شرقا وغربا، منهجية مراجعة نقدية للمسارات وتتطلب السير بمناهج التنقية والغربلة بين ما هو مهم وما هو اهم، وتقضي بضرورة الخروج من منطق التراشق بالتهم، فوحدها القراءة الموضوعية هي كفيلة بأن تكون بناءة ومثمرة كنيسا. الجديد الذي يمكن ان يقدمه البابا الجديد هو استعداده للسير بمسار التنقية للسير معا نحو الوحدة. وهذا ما تشير اليه رسالته الرسولية عشية الزيارتين وهذا ما يشير له أيضا بعض الإشارات البابوية تجاه الأرثوذكسية عندما تمت مثلا، بحسب مطران بيسيدية، أيوب، التابع للبطريركية المسكونية، الذي كان حاضرا، تمت تلاوة دستور الايمان النيقاوي القسطنطيني كما وُضع في مجمعي نيقية والقسطنطينية دون أضافة “الفيليوكويه” التي يرفضها الأرثوذكس، وذلك في لقاء روما الذي ترأسه البابا ليون 14 في 14 أيلول 2025 في لقاء مسكوني حول الشهداء الجدد.
هل من نوافذ نور تحمله الزيارة الفاتيكانية الى شرقِ متأزم ومُتأرجِح بين القديم الجديد والجديد القديم؟ الزيارة ستتبع سكة الحديد التقليدية للزيارات السابقة لتركيا وللبطريركية المسكونية وللبنان. لكن الجديد المفصلي فيها هو الظرف التاريخي الحالي لعالم متأزم، يتفلت كل يوم أكثر فأكثر، من أسس وقواعد النظام العالمي والقانون الدولي الذي نشئ بعد الحرب العالمية الثانية، عالم متحول قِيَمِيّاً، يتناقض أكثر فأكثر مع حقيقة الكنيسة وجوهر مقاييسها ومتطلبات شهادتها ويسعى الى تهميش الكنيسة، شرقا وغربا. فحوار المحبة دون حوار الحقيقية لا يوصل الى الوحدة. كما ان حوار الحقيقة دون حوار المحبة، التي تقتضي اللقاء مع الاخر حتى ولو كنت على اختلاف وخلاف معه، يُعيق الوحدة وإعلان الحقيقة المشتركة الواحدة المستقيمة. فهل نعي سوية الاخطار التي تهددنا ونعي بضرورة مُرافقة حوار المحبة مع حوار الحقيقة، من اجل الوصول الى الوحدة المسيحية المرجوة؟ الي الرب نطلب!
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار