السبت, 6 ديسمبر 2025 11:32 AM

إسرائيل تشدد القيود على استخدام التكنولوجيا من قبل الضباط: تحول نحو الأمن الوقائي بعد 'طوفان الأقصى'

إسرائيل تشدد القيود على استخدام التكنولوجيا من قبل الضباط: تحول نحو الأمن الوقائي بعد 'طوفان الأقصى'

بقلم: يحيى دبوق

لم تكن عملية «طوفان الأقصى»، التي وقعت في السابع من أكتوبر 2023، مجرد حدث ميداني عابر، بل كانت صدمة عميقة لما يصفه الخبراء الأمنيون في تل أبيب بـ«هوية إسرائيل الأمنية». لقد هزت هذه العملية أحد أعمدة «عظمتها» وقدراتها، والمتمثل في «التفوق التكنولوجي المطلق». بعد مرور عامين وشهر واحد على تلك العملية، لا تزال تداعياتها تتوالى، وآخرها أمر عسكري داخلي تم تسريبه مؤخرًا إلى الإعلام العبري، يقضي بمنع ضباط الجيش الإسرائيلي من الرتب العليا من استخدام هواتف تعمل بنظام «أندرويد» في أي نشاط عسكري اعتبارًا من كانون الأول الجاري، مع إلزامهم بالتحول الفوري إلى هواتف «آيفون» العاملة بنظام «آي أو إس».

هذا القرار ليس مجرد إجراء تقني أو روتيني، ولم يستند إلى ثغرة حرجة تم اكتشافها حديثًا. بل يحمل دلالات استراتيجية كبيرة، حيث يمثل اعترافًا غير مباشر من أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في المنطقة بأن ما كان يُنظر إليه سابقًا على أنه أداة مساعدة في جمع المعلومات عن العدو، أو ثغرة محتملة لاختراق صفوفه، قد تحول إلى تهديد للأمن الإسرائيلي نفسه. فالخرق المحتمل لهذه الهواتف وغيرها من الأجهزة والأنظمة الذكية، بما في ذلك السيارات، لا يهدد خصوصية المستخدم فحسب، بل يمكن أن يكشف أيضًا أسرارًا عسكرية وأمنية وتقييمات استخبارية ومواقع قواعد عسكرية غير معلنة، وحتى مواقع وجود الضباط وخريطة تنقلاتهم.

ما الذي دفع إسرائيل إلى اتخاذ مثل هذا الإجراء الآن، والذي قد لا يكون الوحيد بالنظر إلى ما لم يتم تسريبه بعد؟ قد تكمن الإجابة في طبيعة المواجهات الحديثة غير التقليدية. جزء رئيسي من ديناميات الحروب الحالية لا يدار بالطائرات والدبابات فقط، بل بأكواد الأنظمة والثغرات البرمجية، لدرجة أن الأجهزة الذكية أصبحت ساحة صراع خفي بين القوى المتعادية والمتحالفة على السواء، وهو ما ينطبق على العلاقة بين إسرائيل وأعدائها، وحتى بينها وبين حلفائها.

في عالم لم تعد فيه صناعة الإلكترونيات الاستهلاكية حكرًا على دولة واحدة، خصوصًا أن المكونات البرمجية والمادية تصمم عبر شبكات عالمية متداخلة تشمل شركات من دول ذات مصالح متعارضة، فإن الخطر يتجاوز ما يثبته المستخدم على جهازه، إلى ما زرع فيه من قبل الشركة المصنعة أو شركائها قبل أن يصل إلى يده، مما يضاعف عدد المدخلات الأمنية في هذا النظام العالمي من احتمالات الثغرات والاختراقات. وعليه، فإن إسرائيل، التي بنت جزءًا كبيرًا من قوتها على استغلال هذه الثغرات لمصلحتها، تدرك جيدًا أن العدو، وأيضًا الحليف، قادر على استغلال الأدوات نفسها ضدها.

لم تقتصر القرارات الإسرائيلية الأخيرة على الهواتف، بل سحبت وحدات أمنية إسرائيلية أيضًا مئات السيارات الصينية من كبار الضباط، لأن أنظمة الملاحة والاتصالات المدمجة فيها تسجل بيانات حساسة كمسارات التحركات والمواقع، وترسلها إلى الشركات المصنعة، مما يفتح الباب أمام الخصوم والأعداء لرسم خريطة حية لتحركات القيادة العسكرية. أما في خصوص الهواتف، فقد يكون السماح باستخدام «آيفون» حصريًا مرده أن هذا الهاتف أميركي المنشأ وأكثر أمانًا. لكن إسرائيل تعرف أكثر من غيرها أن «آيفون» ليس محصنًا بالمطلق، وأنها هي نفسها اخترقته مرارًا. ومع ذلك، فإن المفاضلة هنا هي بين السيئ جدًا والأقل سوءًا، لا بين الجيد والرديء. أي أن تل أبيب تقول إنها لا تثق بـ«آيفون»، لكنها تفضل مستوى أقل خطورة. وهي بهذا تظهر «نضجًا أمنيًا» مبنيًا على الاحتراز، عنوانه أن التفوق لا يقاس بالقدرة على اختراق الخصوم والأعداء فقط، بل بالقدرة على صد اختراقاتهم، حتى لو بالاعتراف بالهشاشة الذاتية النسبية.

النتيجة الواضحة هي أنه «لا توجد تكنولوجيا محايدة». فكل جهاز ذكي، وكل تطبيق، وكل تحديث، هو نتاج شبكة عالمية من المصالح والسياسات، وقد يحمل في طياته وسائل تجسس أو تتبع لا يعلم بها المستخدم. ومع تعدد جهات التصنيع والبرمجة، تتعدد مستويات التهديد وإمكانات الخرق والثغرات. وعليه، فإن إسرائيل، التي أنفقت المليارات لبناء قدرات اختراق غير مسبوقة، تجد نفسها اليوم مضطرة إلى اتخاذ إجراءات وقائية تشبه تلك التي تنصح بها الدول «الضعيفة»، باعتبار أن التكنولوجيا في النهاية ليست سلاحًا أحادي الاتجاه، وأن الإنجازات الهجومية لا تكفي وحدها إن لم يحصن صاحبها نفسه وقائيًا ودفاعيًا.

أخبار سوريا الوطن

مشاركة المقال: