عودة «داعش» في سوريا: استراتيجية الخلايا المرنة والاختراقات الأمنية الداخلية


عاد تنظيم «داعش» ليحتل واجهة المشهد الأمني في سوريا خلال الأسابيع الأخيرة، وذلك عبر سلسلة من الهجمات النوعية والمتفرقة التي أعادت طرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة التهديد الذي يمثله التنظيم، وقدرته على إعادة تنظيم صفوفه، ومدى جاهزية الدولة السورية وشركائها لمواجهة هذا التحول. يقدم هذا التقرير قراءة معمقة للمشهد، مرتكزًا على وقائع ميدانية موثقة، وتحليلات كاملة للصحفي المختص بشؤون المنطقة الشرقية محمود العاصي، والمحلل العسكري والاستراتيجي زياد حج عبيد.
شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا ملحوظًا، أبرزها الهجوم الذي وقع في 13 كانون الأول/ديسمبر 2025 قرب مدينة تدمر وسط سوريا، وأسفر عن مقتل جنديين أميركيين ومترجم مدني، وإصابة ثلاثة آخرين. أكدت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن الهجوم نُسب إلى تنظيم داعش، وتم تحييد منفّذه وقتله في مكان الحادث. أشارت تقارير إعلامية إلى أن الهجوم وقع أثناء اجتماع تنسيقي ضم قوات من التحالف الدولي وعناصر أمن محليين، وأن المنفّذ كان عنصرًا ضمن قوة أمنية سورية، سُجلت عليه سابقًا مؤشرات تطرف، مما أثار تساؤلات حول آليات التدقيق الأمني.
بالتوازي، أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن كمين مسلح في مدينة معرة النعمان شمال غرب سوريا، استهدف دورية أو حاجزًا أمنيًا، مما أدى إلى مقتل أربعة عناصر وإصابة خامس. ويُظهر هذا النمط العملياتي اعتماد التنظيم على الضرب السريع والانسحاب دون محاولة السيطرة الميدانية.
أكدت وزارة الداخلية السورية في بيان لها استمرار مكافحة تنظيم داعش بالتعاون مع التحالف الدولي، وبدء إجراءات التحقيق والملاحقة. من جانبها، شددت الولايات المتحدة على أن داعش ما يزال يشكّل تهديدًا. وصرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن الرئيس السوري أحمد الشرع كان مستاءً من الهجمات، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تقاتل داعش إلى جانب القوات السورية، وأن أي استهداف للقوات الأميركية أو الشركاء لن يمرّ دون رد.
يرى الصحفي محمود العاصي، المتخصص في ملف التنظيمات المتطرفة وشؤون المنطقة الشرقية، أن الهجمات الأخيرة لم تكن مفاجئة، بل جاءت ضمن سياق متوقع. ويؤكد العاصي أن التنظيم أعاد تموضعه واعتمد أساليب مختلفة عما كان عليه في مرحلة 2014–2017، ما يجعله اليوم أكثر خطورة. لم يعد التنظيم يعمل كنموذج «دولة» ذات سيطرة جغرافية، بل أعاد بناء نفسه وفق استراتيجية جديدة، مع الحفاظ على الخطاب الجهادي التقليدي.
يشير العاصي إلى أن التنظيم عمل بهدوء على إعادة بناء هيكليته وتكيّفه مع الواقع الجديد، وركّز مؤخرًا على تجنيد عناصر جديدة لم تكن ضمن صفوفه في سنوات الذروة. ويتم هذا التجنيد عبر الدعاية الجهادية الرقمية، حيث يعتمد التنظيم بشكل متزايد على منصّات التواصل الاجتماعي الحديثة مثل تيك توك وإنستغرام، مستهدفًا فئة عمرية تتراوح بين 17 و20 عامًا.
تتمثل الأهداف القريبة للتنظيم في ضرب البنية الأمنية السورية، زعزعة الأمن العام، وتفكيك النسيج المجتمعي، وإنشاء خلايا نائمة موزعة جغرافيًا. أما الهدف الأهم، فهو إعادة بناء التنظيم كقوة مؤثرة دون التوسّع العسكري الواسع، بل عبر شبكات صغيرة يتم تفعيلها عند الحاجة في مناطق متعددة، منها جنوب حلب، شمال حماة، شمال حمص، دير الزور، جنوب الحسكة، وأرياف الرقة.
يسلط العاصي الضوء على عملية تدمر، التي شكلت مؤشرًا خطيرًا على اختراقات داخلية. نُفّذت العملية من قبل عنصر تابع للفرع 221 (فرع البادية)، خلال اجتماع أمني مشترك. تشير المعطيات الأولية إلى أن المنفّذ، الذي كان مرافقًا لشخصية قيادية تُدعى سفيان أبو جابر في منطقة الدبسة، فتح النار مباشرة على القوة المشتركة قبل أن يُقتل على يد قوات التحالف. أسفرت العملية عن مقتل جنديين أميركيين ومترجم، وإصابات في صفوف الأمن العام.
ويؤكد العاصي أن منفّذ العملية هو مبايع سابق لتنظيم داعش، انتسب إلى الأمن العام قبل نحو عشرة أشهر، ورغم وجود تصنيف داخلي يؤكد ماضيه المتطرف، تم قبوله ضمن المؤسسات الأمنية، مما يحمّل الحكومة السورية جزءًا من المسؤولية عن هذا الخلل المؤسساتي. ويرى العاصي أن هذا الملف يؤرق أبناء المنطقة الشرقية وريف حماة الشرقي وجنوب حلب والسفيرة وصوران وريف حلب الشمالي وريف حمص الشمالي.
كما يشير العاصي إلى تداخل المصالح، حيث تستفيد بعض الجهات، وعلى رأسها «قسد»، من هذه العمليات لتأجيل المفاوضات وتقديم نفسها كقوة أساسية في مكافحة الإرهاب. ويختتم بالتأكيد على ضرورة إطلاق برنامج وطني شامل لمكافحة الإرهاب، يشمل إعادة تدقيق آليات التزكية والانتساب داخل المؤسسات الأمنية، واعتماد مقاربة أكاديمية ومؤسساتية.
من جانبه، يؤكد زياد حج عبيد، المحلل العسكري والاستراتيجي، أن تنظيم داعش ما يزال يمتلك خلايا كثيرة في البادية السورية، تركزت في جبال العمور بمحيط تدمر، وجبل البشري في ريف الرقة. ويشير عبيد إلى أن هذه الخلايا كانت نائمة وجرى تحريكها مؤخرًا لشن عمليات ضد حواجز الأمن العام والجيش السوري.
ويعتقد عبيد أن هذه الخلايا تلعب أدوارًا وظيفية لصالح إيران، متهمًا ميليشيات محلية بالاستثمار في بقايا تنظيم داعش، بما في ذلك الإفراج عن بعض قياداته، مقابل تنفيذ أعمال تستهدف الدولة السورية. ويشدد عبيد على ضرورة إجراء تقييمات أمنية صارمة قبل ضم أي عناصر إلى الأمن العام أو الجيش، لمنع تسلل المحسوبين على التنظيمات التي تعمل ضد الدولة السورية.
تشير تقارير أممية ودولية (2023) إلى أن تنظيم داعش ما يزال يحتفظ بآلاف العناصر في سوريا والعراق، تُقدَّر أعدادهم بما بين 5,000 و7,000 عنصر. تكشف الوقائع الميدانية والتحليلات المتقاطعة أن التنظيم لم ينتهِ، بل أعاد إنتاج نفسه ضمن نموذج خلايا مرنة تُفَعَّل عند الحاجة. يتضح أن التحدي المطروح اليوم أمام الدولة السورية وشركائها لم يعد عسكريًا فقط، بل تحديًا أمنيًا واستخباراتيًا ومؤسساتيًا طويل الأمد.
سياسة دولي
سياسة دولي
⚠️محذوفسياسة سوريا
سياسة سوريا