الواقعية المرنة: استراتيجية واشنطن الجديدة للرهان على سوريا كحليف إقليمي لمواجهة النفوذ الإيراني


في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، أصدر البيت الأبيض استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، التي تمثل تحولاً جوهرياً في أولويات ومبادئ السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومن أبرز المفاهيم التي نصّت عليها هذه الاستراتيجية هو مفهوم "الواقعية المرنة".
وفقاً لهذا النهج، تعتزم الولايات المتحدة انتهاج سياسة أكثر براغماتية، متخلية عن الممارسة السابقة المتمثلة في فرض الديمقراطية والمشاريع الأيديولوجية بالقوة. تنص الاستراتيجية صراحة على نية دعم العلاقات البنّاءة مع مختلف الدول "دون فرض أي تغيير ديمقراطي أو اجتماعي آخر يختلف اختلافاً كبيراً عن تقاليدها وتاريخها". وبشكل أساسي، تُقرّ واشنطن بالتنوع الحضاري للعالم المعاصر، وتُبدي استعدادها لتقبّل الدول كما هي، حتى وإن اختلفت أنظمتها السياسية أو قيمها عن المعايير الغربية.
وبحسب مجلة "جيوبوليتيكال مونيتور"، يُشير هذا التحول إلى رفض النهج المحافظ الجديد الذي ساد العقود الماضية، حين كان يُنظر إلى انتشار الديمقراطية كمبرر للتدخل. أما الآن، فتضع الاستراتيجية المصالح الوطنية الأمريكية والاستقرار في صدارة أولوياتها، مُعلنة "ميلاً إلى عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وتعدّ المجلة أن هذا التحول إشارة واضحة لدول الشرق الأوسط: تتخلى واشنطن فعلياً عن سياسة "تغيير الأنظمة" وتصدير الديمقراطية، مُركزة على التعاون البراغماتي في مجالات التجارة والأمن والطاقة، حيثما يعود ذلك بالنفع على الطرفين.
في إطار مراجعة سياسة الشرق الأوسط، خُصصت مساحة خاصة في الاستراتيجية للمسار الجديد تجاه سوريا. فبدلاً من الخطاب السابق حول "محور الشر" وعزل دمشق، تُعبر الوثيقة الآن عن موقف معاكس: "لا تزال سوريا تُشكل مشكلة محتملة، ولكن بدعم أمريكي وعربي وإسرائيلي وتركي، يُمكنها أن تستقر وتستعيد مكانتها اللائقة كلاعب أساسي وإيجابي في المنطقة".
ترى "جيوبوليتيكال مونيتور" أن واشنطن تعلن صراحة عن خططها للمساعدة في تعزيز وإعادة تأهيل سوريا، الدولة التي اعتُبرت لأكثر من عشر سنوات منبوذة على الساحة الدولية. ويعود هذا التحول إلى تغييرات جوهرية داخل سوريا نفسها، حيث شهدت دمشق في عام 2024 تغييراً مفاجئاً في السلطة بسقوط نظام بشار الأسد، وبروز سلطة جديدة بقيادة أحمد الشرع. وسرعان ما اعترفت الولايات المتحدة بحكومته، مما شكل نهاية فعلية للعزلة السورية. وقد التقى دونالد ترامب شخصياً بأحمد الشرع في البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، في زيارة شكلت تأكيداً رمزياً على انفراجة العلاقات بين واشنطن ودمشق.
بحسب تقرير المجلة، يعود سبب هذا التحول الكبير في المسار إلى العامل الإيراني. فقد لاحظ خبراء إقليميون أن الإجراءات الأمريكية السابقة، وإن كانت غير مقصودة، عززت موقف إيران في الشرق الأوسط. وأشار عالما السياسة البارزان جون ميرشايمر وستيفن والت إلى أنه بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003، مالت موازين القوى في الخليج العربي بشكل حاد لصالح طهران، التي ملأت فراغ السلطة الذي نتج عن القضاء على الجيش العراقي.
حاولت واشنطن مواجهة صعود إيران من خلال رهانها على إسرائيل كحليف رئيسي، لكن هذه الاستراتيجية الأحادية أدت إلى استعداء قطاعات واسعة من العالم الإسلامي، وساهمت في ترسيخ صورة إيران كـ "درع" للعالم الإسلامي. كما عززت طهران نفوذها بدعم الجماعات الشيعية في لبنان (عبر حزب الله) وفلسطين، وقدمت نفسها كوسيط إقليمي، كما حدث خلال الأزمة المسلحة بين باكستان والهند في آيار/ مايو 2025.
تدرك واشنطن هذه التغيرات وتستخلص العبر من أخطاء حساباتها السابقة. وتلفت "جيوبوليتيكال مونيتور" إلى أنه لمواجهة إيران، لا يكفي الاعتماد على إسرائيل وحدها، بل لا بد من وجود حليف ضروري بين الدول العربية، قادر على موازنة طهران على الساحة الإقليمية. وتشير المجلة إلى أن أمريكا ترى اليوم في سوريا المتجددة حليفاً من هذا القبيل.
واشنطن على استعداد للاستثمار بسخاء في تعزيز سوريا الجديدة، سياسياً واقتصادياً. ووفقاً لتقرير المجلة، من المتوقع أن تقدم الولايات المتحدة مساعدات مالية ودعماً تقنياً لتحقيق الاستقرار وإعادة بناء سوريا بعد حرب طويلة. ويُعتقد أن النمو السريع للاقتصاد السوري وقوته العسكرية قادر، على المدى البعيد، على تحويل سوريا إلى قوة إقليمية جديدة، تضاهي في نفوذها العراق في الماضي، مما سيخلق ثقلاً موازناً لإيران في الشرق الأوسط.
اقتصاد وأعمال
سياسة دولي
سياسة دولي
سياسة دولي