الذاكرة العامة ملك للجميع: المهندس نضال رشيد بكور يحذر من محو أسماء الأعلام دون توافق مجتمعي


يشير المهندس نضال رشيد بكور إلى أن أسماء المدن ليست مجرد شواهد حجرية صامتة، بل هي صفحات مفتوحة من الذاكرة الاجتماعية التي تختصر تاريخاً طويلاً من الفعل الإنساني وتمنح المكان روحه ومعناه. فعندما تُسمّى مدرسة أو ساحة أو شارع باسم علمٍ من الأعلام، فإن ذلك يُعد بمثابة إقامة جسر رمزي بين الماضي والحاضر، وإخبار للأجيال بأن هنا مرّ من صنع الفرق وتجسدت قيمة تستحق الحفظ.
من منظور فلسفي، التاريخ ليس محكمة أخلاقية نحاكم فيها الأفراد بمعايير زمن لاحق، بل هو سياق مركّب تُفهم فيه الشخصيات من خلال أفعالها الكبرى وأثرها العام. ويقع الخطأ الجسيم حين نختزل الإنسان في انتماء سياسي عابر أو موقف جزئي، ونتجاهل ما قدّمه من تضحيات أو إسهامات شكلت وعياً وطنياً أو نهضة فكرية أو موقفاً أخلاقياً في لحظة مفصلية.
لقد أدركت المجتمعات الحيّة، منذ أقدم الحضارات، أن تكريم الرموز ليس تزكية مطلقة بل هو اعتراف بالدور والإضافة. ولهذا السبب، احتفظت أثينا بفلاسفتها رغم اختلافهم، وخلّدت أوروبا شعراءها ومفكريها رغم تناقضاتهم؛ لأن القيمة لم تكن في العصمة بل في الأثر الذي تركه الفرد. فالإنسان لا يُقاس بكماله، بل بأثره.
إن نزع أسماء الأعلام من الفضاء العام دون معايير واضحة أو توافق مجتمعي يُدخل الذاكرة في حالة قطيعة مع ذاتها. وهذه القطيعة مع التاريخ لا تنتج وعياً جديداً بل فراغاً، لأن الأجيال التي تُربّى بلا رموز، تُربّى بلا أسئلة، وبلا قدوة، وبلا إحساس بالامتداد. ومن الخطأ الفادح أن يُستبدل معيار الإبداع والتضحية والريادة بمعيار الاصطفاف أو القرب من توجهٍ ما. فالتاريخ الوطني لا يُبنى بمنطق الغلبة، بل بمنطق التراكم: تراكم الأدوار وتعدد المسارات واختلاف المشارب، ضمن هدف جامع هو خدمة المجتمع والدفاع عن كرامته.
تقتضي الحكمة السياسية والإدارية أن تكون القرارات المرتبطة بالذاكرة العامة نتاج تشاور عميق، لا اجتهاداً فردياً. فوجود مجلس من الحكماء، أو هيئة علمية تضم مؤرخين وأدباء ومفكرين وأكاديميين، ليس ترفاً بل ضرورة أخلاقية ومعرفية تضمن ألا يُظلم ماضٍ، ولا يُزوّر معنى. كما أن إشراك المجتمع في مثل هذه القضايا، عبر الاستفتاء أو الحوار العام، يعيد الاعتبار لفكرة أن التاريخ ملكٌ للناس جميعاً، لا حكراً على سلطة أو جيل. فالأسماء التي عاشت في وجدان الناس لا تُمحى بقرار، لأنها صارت جزءاً من هوية المكان.
إن تكريم الرموز ليس التفاتاً إلى الوراء بل هو استثمار في المستقبل. فالأمم التي تحترم ذاكرتها تعرف كيف تبني غدها بثقة، أما التي تعبث بتاريخها، فإنها تُربك بوصلتها وتفقد قدرتها على الإقناع والإلهام. من هنا، فإن صيانة أسماء الأعلام، والإنصاف في الحكم عليهم، ليست مسألة أسماء على لوحات، بل مسألة وعي وعدالة رمزية ووفاء لجهدٍ إنساني صنع ما نحن عليه اليوم. فالحكمة كل الحكمة أن نختلف دون أن نمحو، وأن نراجع دون أن نُنكر، وأن نبني دون أن نهدم الأساس.
سياسة سوريا
سياسة سوريا
سياسة سوريا
سياسة سوريا