ممدوح عدوان: الفارس الخاسر الذي تمرد على الزيف وأحيا قيم الإنسانية


هذا الخبر بعنوان "ممدوح عدوان آخر محاربي طواحين الهواء!" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٠ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
كيف يمكن اختصار سيرة مبدع جمع بين الصحافة والترجمة وكتابة الرواية والسيناريو والمسرح، وكان قبل ذلك وبعده شاعراً يعتمد "الذات الصافية للمبدع كي يرى" و"شجاعة البراءة كي يتمرّد"؟ هكذا كان الراحل ممدوح عدوان، الذي مرت ذكرى وفاته أمس (توفي عام 2004)، والذي اشتبك مع مرجعيات تضليلية مغلقة، وانتقد تاريخاً متراكماً مزوراً، وفكك عقائد وتقاليد مكرسة، وصرخ في وجه قمع يتطاول على بديهيات الإنسانية.
يقول عدوان: "حين يأتي الموت، الذي لا بد أن يأتي، يجب أن يرانا وقد استنزفنا حياتنا حتى الرمق الأخير. عشنا الحياة بكبرياء وكرامة، وأدينا واجبنا نحوها بشرف. ولن يقول لنا الموت عندها بشماتته المعهودة: لن تأخذوا معكم شيئاً. بل نحن الذين سنقف أمامه باعتزاز وكبرياء لأننا لم نترك وراءنا ما لم نعشه."
يستحق الراحل عدوان منا أن نتمثل ما كتبه وأن نستعيده، ولو بأقل القليل، أي بالكتابة عنه. وما نقرأه في كتاب الإعلامية نهلة كامل "الفارس الخاسر" الصادر عن دار التكوين، ليس رثائية متأخرة، بل هو صياغة لصديق عن صديقه، تتخللها حميمية القرب ومعرفة المحب وامتنان الطالب المتأثر بأستاذه المفعم بالحياة حتى آخر رشفة.
في فصل "كيف أتمرّد!"، تسأل الكاتبة كامل عدوان: "قلتَ مرةً أنا هاملت ودون كيشوت، ولم تقلْ أنا بوعلي شاهين مع أنك ابن بيئته!" فيجيبها: "بل هاجمتُ الإقطاعيين والبكوات ورجال الدين في قصائد مبكرة، وكتبت عنه أول مسرحياتي "المخاض"، كان تمرداً منجزاً، لكن هاملت ودون كيشوت هما التمرد الأنطولوجي الأزلي."
ترى نهلة كامل أن عدوان يلتقي مع الفلسفة "الوجودية" في عبارة "أنا أتمرّد إذاً نحن موجودون"، وليس مع عبثية "أنا أتمرّد إذاً أنا موجود". فبالرغم من أن الإنسان هو حامل الثورة على واقعه، كان هم عدوان أيضاً في الارتقاء بالفعل الثقافي والممارسة الأدبية، كي يستطيع ليس فقط قول "لا" في سياق التاريخ الوطني والعربي، بل كانت قضيته المزمنة: كيف يقول "لا" في الأدب أيضاً.
تنتشر نفحة الطيب وحبق الصداقة على صفحات الكتاب، رغم ألم الخسارة والحنين الموجع الذي تكتب به وعنه الكاتبة. تقول في فصل "غايات مستحيلة": "قلتُ لممدوح وأنا أكتب عن "أيام الجوع" عام 1995: تُشكّلُ الكتابة عنك للباحث مشكلة أو تحدياً، فهو سيجد المسافة بينك وبينه طويلة، وأنك أبعد منه في الحرية، وأشمل في التحرر، وأعلى في الجرأة، وأصلب في الشجاعة، وتبدو عملية تقصير المسافات صعبة، فكيف إذا كان الباحث امرأة؟" وقد أجابها ضاحكاً: "بل قولي إنّ المسافة بيننا، وأنا معكم، وبين هذه الغايات الحرة، سباقٌ طويلٌ، وإذا كان الكاتبُ امرأة فهذا يعطي قيمة مضافة لأهداف السباق."
لكن سباق عدوان كان أولاً ودائماً مع نفسه، كان مغالبة للحياة إلى أقصاها. يقول صاحب "دفاعاً عن الجنون": "كلُّ ما كتبتُه في حياتي، كتبتُه ولديّ إحساسٌ بالحرية رغم غيابها من حولي. مَنْ لا يمنح نفسَه الحريةَ، لا أحدَ يمنحه إيّاها."
تكمل الكاتبة إضاءتها على ما يعنيه عدوان بـ"الإحساس بالحرية"، مستشهدةً بكلامه إذ "هو نوع من الجنون الذي يفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتثلم أحاسيسنا، إنه يشبه صرخة الطفل في أسطورة الملك العاري الذي أمر الناس أن يروه مرتدياً ثيابه، فرأوه، وحين خرج إلى الجماهير فاجأه صراخ طفل لم يُدجّن بعد: لكنه عارٍ... الملك عارٍ تماماً!"
وتضيف كامل تفسيره لهذه الدعوة الرومانسية المستحيلة لتغيير العالم بعين طفل: "تصوروا هذا المستحيل الذي صرنا نحلم به، أن تسير في الشارع فلا تخاف، أن ترى فتاة جميلة فتحس أنها جميلة، وأن تحس هي بالسعادة لأن عابراً أعجب بجمالها فلا يضطهدها بعدائيته الذكورية، أن يعمل الإنسان ويحس بالسعادة لأنه أتقن عمله، أن يرى زهرة متفتحة فينعشه أريجها... هذا ما أدافع عنه إنه إنسانية الإنسان."
تشير الكاتبة إلى أن الانطباع السائد عن ملامح تجربة عدوان الأدبية يقتبسه النقاد عادة من عنوان ديوانه "يألفونَكَ فَانفِر"، محاولين تبيان مزاجه الثوري ومواقفه الخارجة عن التدجين، وجنوحه نحو العدالة الإنسانية التي تبدو واضحة في نفوره العميق من القولبة الإيديولوجية، والتكرار العقائدي، والتشنج القومي، والاختلاس والفقر الفكري، والتي أساءت جميعها إلى فكرتي "القومية" و"الاشتراكية" وجعلتهما "تبدوان موضتين قديمتين ثم جعلتهم (أي جعلت أصحاب الشعارات) ينصرفون عنها إلى أزياء جديدة أمريكية بالتأكيد!"
تضيف كامل أن ملامح هذا "النفور الإيديولوجي" يمكن قراءتها في مفاهيم عدوان الأدبية كلها، لكنه كان أيضاً صاحب موقف ساخر مشاغب وعبارة هجائية لاذعة يطلقها ضاحكاً مرحاً، وقد تتحول إلى معارك أدبية وإعلامية. وتجد في كتابه "جنون آخر" مدخلاً إلى مزاجه الشخصي هذا حيث يقول: "لديّ معايير أخرى للناس الذين يشتغلون في الشؤون العامة، فأنا مثلاً لا أثق بمن لا يضحك، أو لا يحب الضحك، وأكثر ما يغيظني هو الذي لا يفهم النكتة، كما أنني لا أثق بأي سياسي لا يقرأ الأدب، وقد كان معظم أصدقائي من العراقيين لأنهم يغنون، فالغناء بوابة أخرى من بوابات الروح ومنها نستطيع التواصل بعمق مع الآخر، والذي تستطيع أن تضحك معه أو تغني معه هو الذي يمكن أن يكون صديقك في المستقبل."
هكذا عزز عدوان بضحكته المجلجلة نفوره الإيديولوجي في حياته اليومية، فاقتنى – كما تكمل الكاتبة لاحقاً – سيارة فقيرة وقديمة موديل 1941، مضحكة المظهر، سلحفاة فولكسفاكن حمراء فاقعة بنقط سوداء، كان يسير بها في شوارع دمشق كأنه يشتم سيارات المرسيدس وال بي أم والبورش التي اكتظت بها المدينة في النصف الثاني من القرن العشرين، ويقيم بذلك مقارنة بين بطر الفاسدين وحديثي النعمة، وبين تقشف أبناء الشعب. ولا تزال هذه السيارة مركونة أمام بيته ماركة مسجلة تعلن الموقف ذاته!
وكما تصعب الإحاطة بكامل نتاج عدوان الذي بلغ (90 كتاباً)، تصعب أيضاً الكتابة عن مجمل هذه الدراسة البحثية أو هذه "النوستالجيا" التحليلية، إن جاز القول، والتي أبدعتها الكاتبة بجهد واضح للغوص في التيارات الدافقة التي انبجست من بين يدي عدوان ماءً معرفياً وشعراً ممتعاً ومواقف شهمة، رغم معرفته المسبقة بحجم التحديات، بل إصراره على فعل التحدي في سياق "أبطاله يربحون وهم يخسرون منذ السيد المسيح مروراً بدون كيشوت محارب طواحين الهواء وصولاً إلى يوسف العظمة... الذين تركوا المعركة لتحرير العالم مفتوحةً."
لكن أي اكتشاف مخيف وظريف ما اكتشفه عدوان نفسه – بحسب كامل – بمعنى "إلى أيّ حدٍّ كنتُ أنا أيضاً دون كيشوتاً وأنا أنبري لمعالجة عطبٍ عصريٍّ بالكلمات!" والمفارقة بين كلمتي "البطل" و"الخاسر" يحللها ويشرحها عدوان بأن "البطل الدون كيشوتيّ الخاسر هو الذي يستطيع إنقاذ القيم الإنسانية من الانهيار... إنّ التصدي جنونٌ بمعايير الآخرين لكن الانسحاب من التصدي، والرضوخ لهذا الفساد الذي يعشعش في العالم خيانة للنفس وللقيم التي يجب أن يظل البشر متمسكين بها... لكي يظلّوا بشراً."
ثقافة
ثقافة
ثقافة
ثقافة