سوريا: من «القطر» المؤجل إلى ضرورة بناء الدولة المكتملة


هذا الخبر بعنوان "من «القطر» إلى الدولة: سوريا وسؤال الاكتمال المؤجَّل" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢١ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
لم تكن تسمية «القطر السوري» مجرد اختيار لغوي في الخطاب السياسي، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن تصور محدد للدولة والشرعية والهوية، كما يوضح الدكتور سلمان ريا. فمنذ منتصف القرن العشرين، وبالتحديد عقب تجربة الوحدة السورية–المصرية التي امتدت من عام 1958 إلى 1961، دخل هذا المصطلح الحقل السياسي العربي. لقد وُصف به الكيانات التي لم يعد يُراد لها أن تُفهم كدول مكتملة السيادة، بل كوحدات إقليمية مؤقتة ضمن إطار مشروع قومي مؤجَّل.
لم تتشكل كلمة «القطر» هنا كمفهوم نظري ذي بنية مكتملة، بل جاءت كحل لغوي–سياسي معقد أعقب فشل أول تجربة وحدوية عربية حديثة. لقد كشفت الوحدة مع مصر، التي قُدمت آنذاك كتحقيق لحلم الأمة الواحدة، عن هشاشة البناء المؤسسي وعمق الفجوة بين الدولة والشعار. كما أظهرت استحالة إدارة كيان موحد في غياب دولة قانون ومؤسسات راسخة. ومع انهيار هذه التجربة، لم تُجرَ مراجعة فكرية جذرية، بل جرى الالتفاف على الفشل من خلال إعادة توصيف الكيانات القائمة بأنها «أقطار» لم يحن أوان اكتمالها بعد.
منذ ذلك الحين، تحوّل «القطر» من توصيف مرحلي إلى صيغة دائمة. ومع صعود حزب البعث إلى السلطة، جرى تثبيت هذا الفهم دستوريًا وثقافيًا، فأصبحت سوريا تُعرَّف رسميًا بأنها «قطر من أقطار الأمة العربية»، لا دولة وطنية مكتملة السيادة. بهذا التحول، أُخرجت الحدود من كونها إطارًا قانونيًا لتنظيم المجال السياسي والاجتماعي، وأُعيد تعريفها كأثر استعماري مؤقت. في المقابل، أُحيل مفهوم الدولة إلى أفق مؤجَّل يتقدم فيه الشعار الأيديولوجي على العقد الاجتماعي.
لم يقتصر أثر هذا التحول على الجانب اللغوي فحسب، بل ترتبت عليه نتائج سياسية عميقة. فحين تُعلَّق فكرة الدولة، تُعلَّق معها فكرة المواطنة. وحين يُنظر إلى الكيان السياسي كمرحلة لا كغاية، تتراجع المحاسبة لصالح الولاء، وتُستبدل الشرعية الدستورية بشرعية تمثيل «المشروع الأكبر». فالدولة الحديثة، بمعناها السياسي، هي كيان مسؤول عن الحاضر، بينما «القطر» في هذا السياق ظل وعدًا مفتوحًا بالمستقبل دون التزام فعلي تجاه الواقع.
تتبدى المفارقة في أن سوريا كانت من أوائل بلدان المنطقة التي شهدت تجربة دستورية وبرلمانية مبكرة، ونقاشًا جديًا حول السيادة والتمثيل والحقوق. غير أن هذا المسار لم يُستكمل، بل جرى تعطيله لصالح قفزة أيديولوجية فوق الدولة الوطنية. وهكذا، بدل أن تشكل القومية العربية إطارًا لتطوير الدولة، تحولت إلى أداة لتقليصها. وبدل أن تكون الوحدة نتيجة نضج سياسي ومؤسسي، غدت بديلاً عنه. وعلى الرغم من انهيار التجربة الوحدوية الوحيدة في وقت مبكر، لم تُستخلص دروسها السياسية. لم يُطرح سؤال شروط الوحدة ولا حدودها، بل استمر التداول بالمصطلحات ذاتها، وكأن الزمن توقف عند لحظة الوعد الأولى. في هذا السياق، حافظ مفهوم «القطر» على دوره كركيزة رمزية لشرعية تتجنب الاعتراف بأن الدولة المؤجلة تحولت فعليًا إلى دولة معطلة.
بعد عام 2011، انفجرت هذه الإشكالية بشكل مكشوف. فلم تواجه سوريا أزمة استقرار فحسب، بل أزمة تعريف سياسي عميقة. فالكيان الذي لم يُنجز تاريخيًا كدولة مواطنين، وُضع أمام اختبار الوجود. وفي غياب دولة وطنية محايدة وراسخة، برزت أنماط انتماء ما دون الدولة: الطائفة، والعشيرة، والسلاح، والتدخل الخارجي. ولو كانت الدولة قد أُنجزت كإطار جامع ومحايد، لكان الصراع سياسيًا قابلًا للإدارة، لا انقسامًا وجوديًا مفتوحًا.
يتضح هنا أن المعضلة لم تكن في غياب الوحدة، بل في غياب الدولة. فلا وحدة مستدامة بلا دول قوية، ولا تنوع قابل للإدارة بلا قانون، ولا استقرار من دون عقد اجتماعي واضح. إن تحويل سوريا إلى «قطر» لم يحصنها من التفكك، بل جعل بنيتها أكثر هشاشة عند أول اختبار بنيوي.
على المستوى اللغوي–الفلسفي، يعكس الفرق بين مفهومي القطر والدولة جوهر الإشكال. فالقطر يدل لغويًا على الجزء والناحية، ويفترض كلاً سابقًا عليه، بينما الدولة في معناها الحديث كيان مكتمل السيادة، قائم بذاته، ومسؤول عن مواطنيه وحدوده ومؤسساته. القطر يعيش في منطق الانتظار، أما الدولة فتتحرك في منطق المسؤولية. القطر يُدار بمنطق التعبئة، والدولة تُدار بمنطق القانون.
في الفكر السياسي العربي، جرى تصوير الدولة الوطنية كـ«نقيض» للأمة، رغم أن التجربة التاريخية تُظهر أن الأمم لا تقوم إلا عبر دول مستقرة، وأن المشاريع العابرة للحدود لا تنجح إلا إذا استندت إلى كيانات تحترم القانون والمواطنة. إن نزع الشرعية عن الدولة باسم حلم أكبر لم يؤدِّ إلى تحقيق ذلك الحلم، بل إلى تآكل الواقع السياسي والاجتماعي.
من هنا، فإن استعادة سوريا اليوم لا تمر عبر إعادة إنتاج خطاب «القطر»، ولا عبر استدعاء مشاريع وحدوية مجردة، بل عبر إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة كشرط للعدالة والاستقرار والتعايش. دولة لا تنفي انتماءها الثقافي والتاريخي، لكنها لا تؤجله على حساب مواطنيها. دولة لا ترى نفسها مرحلة عابرة، بل وطنًا نهائيًا قادرًا على إنتاج وحدته من مكوناته الداخلية. إن الانتقال من «القطر» إلى الدولة ليس تعديلًا اصطلاحيًا، بل تصحيح لمسار تاريخي طويل تأجل أكثر مما ينبغي. (موقع أخبار سوريا الوطن)
سياسة
اقتصاد
سياسة
سياسة