الجيرة في سوريا: صمود اجتماعي يتجاوز الانقسام والنزوح


هذا الخبر بعنوان "“الجيرة”.. رابطة تعيد تعريف المجتمع السوري في زمن الانقسام" نشر أولاً على موقع enabbaladi.net وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢١ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
عنب بلدي – كريستينا الشماس: لطالما شكلت "الجيرة" في سوريا ركيزة أساسية للعلاقات الاجتماعية، متجاوزة كونها مجرد علاقة مكانية بين بيوت متجاورة، لتتداخل مع مفاهيم التضامن والمسؤولية المشتركة والشعور بالانتماء. ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وما تلاها من موجات نزوح وتهجير واسعة، خرج مفهوم "الجيرة" عن إطاره التقليدي، متحولًا إلى ظاهرة اجتماعية عابرة للمناطق والمحافظات، ومتجاوزة للاختلافات الدينية والطائفية.
على مدار 14 عامًا، وجد ملايين السوريين أنفسهم غرباء في مدن وقرى جديدة. وفي ظل غياب مؤسسات الدولة وتراجع الدور الإغاثي المنظم، تحولت "الجيرة" في كثير من الحالات إلى بديل عن العائلة الغائبة وشبكة أمان اجتماعية. يناقش هذا التقرير من عنب بلدي كيف أصبحت "الجيرة" طابعًا مميزًا للمجتمع السوري خلال سنوات الحرب، وكيف أسهمت في الحفاظ على قدر من التماسك الاجتماعي، رغم كل عوامل التفكك.
مع موجات النزوح المتتالية، لم يعد السوري يختار جيرانه، بل فرضت الجغرافيا الجديدة هذا الواقع. ومع ذلك، تجاوزت العلاقة بين السكان الأصليين والنازحين في كثير من المناطق حدود الاستضافة المؤقتة، لتتحول إلى شراكة حياتية يومية.
يروي سعيد رزق، أحد سكان منطقة صحنايا بريف دمشق، لعنب بلدي، كيف استقبلت حارته عشرات العائلات القادمة من مدينة داريا المجاورة لصحنايا، والتي تعرضت لقصف ممنهج من قبل النظام السابق، ما أدى إلى نزوح الأهالي منها عام 2013. في ظل شح الموارد ونقص المساعدات، تقاسم الجيران الخبز والماء، وتناوبوا على تقديم ما يستطيعون. ومع مرور الوقت، لم تعد العائلات تُعرف بحسب مناطقها الأصلية، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من النسيج المحلي، بحسب سعيد.
من جانبها، تروي جاهدة قرطومة، وهي سيدة نزحت من حي جوبر بدمشق، كيف اضطرت لمغادرة منزلها تحت القصف دون أن تتمكن من إخراج أي من أثاثها أو مقتنياتها. كان الخروج مفاجئًا وقسريًا، ولم يكن لديها معيل أو مصدر دخل ثابت لبدء حياة جديدة. بعد النزوح، استقرت جاهدة في منطقة الدويلعة بدمشق، حيث واجهت صعوبات كبيرة في تأمين المسكن ومتطلبات الحياة الأساسية، إذ وصلت إلى الحي بلا تجهيزات منزلية أو قدرة مادية على استئجار منزل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
وتضيف جاهدة أن الدعم الذي تلقته لم يأتِ من جهات رسمية أو منظمات، بل من أهالي الحي أنفسهم. فقد استقبلتها سيدة من مدينة حمص، كانت تقيم في الدويلعة، وعرضت عليها استئجار منزل بمبلغ مخفض مراعية ظروفها، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قدمت لها جزءًا من فرش منزلها وساعدتها على تأمين الحد الأدنى من متطلبات السكن. مع مرور الوقت، تطورت العلاقة بين السيدتين من "جيرة" إلى ما يشبه علاقة الأخوّة، وكان لهذا الدعم المعنوي أثر بالغ في قدرة جاهدة على التكيف مع واقع النزوح.
في بلد تعددي كسوريا، شكلت الانقسامات الطائفية أحد أخطر تداعيات الحرب. إلا أن "الجيرة"، في كثير من الأحيان، لعبت دورًا معاكسًا، مؤكدة أن العلاقات اليومية أقوى من الخطابات السياسية والتحريضية.
في مدينة جرمانا المختلطة سكانيًا، تحدث محمد البري، الذي لجأ إليها بعد نزوحه مع عائلته من دير الزور، أن سنوات الحرب لم تغير طبيعة العلاقة بين الجيران، رغم اختلاف خلفياتهم الدينية والمناطقية. وأشار إلى أن الخوف المشترك والحاجة المتبادلة جعلا الجميع أكثر تمسكًا بالعلاقات القائمة. يقول محمد: "وجدت دعمًا غير مشروط من الجيران، الذين ساعدوني في إيجاد عمل، وتأمين مستلزمات الحياة الأساسية، وتسجيل أطفالي في المدارس. ومع مرور الوقت، أصبحت العلاقة قائمة على الثقة المتبادلة، بعيدًا عن أي تصنيفات".
فقد كثير من السوريين أفرادًا من عائلاتهم خلال سنوات الحرب، سواء بالقتل أو الاعتقال أو الهجرة، ما ترك فراغًا اجتماعيًا ونفسيًا عميقًا، خاصة لدى كبار السن الذين وجدوا أنفسهم وحيدين بعد سنوات من الاعتماد على شبكة الأسرة الممتدة.
فاتن الحسين، سيدة مسنة نزحت من منطقة المليحة في ريف دمشق، فقدت أبناءها الثلاثة بين الهجرة القسرية والاعتقال، لتجد نفسها فجأة دون سند عائلي مباشر، وفي بيئة جديدة لا تعرف فيها أحدًا. استقرت فاتن في حي الطبالة بدمشق، حيث بدأت مرحلة مختلفة من حياتها اتسمت بالعزلة والخوف من المستقبل وعدم القدرة على تلبية احتياجاتها اليومية بمفردها.
تروي فاتن أن الأيام الأولى كانت الأصعب، إذ واجهت صعوبة في التأقلم مع فكرة العيش وحدها بعد أن كانت محاطة بأبنائها. ومع مرور الوقت، بدأ الجيران يلعبون دورًا أساسيًا في حياتها اليومية، من خلال زيارات منتظمة للاطمئنان عليها، ومساعدتها في تأمين احتياجاتها الأساسية، ومرافقتها في مراجعاتها الطبية، إلى جانب مشاركتها تفاصيل بسيطة من حياتهم اليومية، كسؤالها عن صحتها أو دعوتها لمشاركتهم الطعام. وتشير إلى أن هذا الدعم جاء بشكل تلقائي، مدفوعًا بإحساس جماعي بالمسؤولية تجاه شخص فقد عائلته ويعيش ظروفًا قاسية. ومع الوقت، تحولت العلاقة مع جيرانها إلى ما يشبه علاقة العائلة البديلة، فأصبحت تشعر بأنها جزء من محيط اجتماعي يوفر لها الأمان والدعم.
اختتمت فاتن حديثها لعنب بلدي بالقول: "خسرت أبنائي، شعور الوحدة كان يقتلني كل يوم، لكن الجيرة ساعدتني بالتأقلم على طبيعة حياتي الجديدة ومنحتني دافعًا للاستمرار".
سوريا محلي
سوريا محلي
سوريا محلي
سوريا محلي