من الوحدة إلى التهديد بالقتل: تفاصيل العداء المرير بين صدام حسين وحافظ الأسد


هذا الخبر بعنوان "لماذا أراد صدام حسين قتل حافظ الأسد؟" نشر أولاً على موقع worldnews-sy وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٤ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
في أواخر ستينيات القرن الماضي، تساءل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مستغربًا، عن سبب فشل البعثيين في تحقيق الوحدة رغم حكمهم لبغداد ودمشق. هذا التساؤل المحوري يختزل جوهر العلاقة المعقدة بين سوريا والعراق، حيث حكم حزب البعث العربي الاشتراكي كلا البلدين، ورغم تطلعاته الفكرية نحو نهضة عربية قومية اشتراكية، إلا أن السلوك السياسي بين بغداد ودمشق كان يتسم بالصراع المستمر.
من عجائب الأقدار أن كلًا من صدام حسين وحافظ الأسد وصلا إلى سدة الحكم من بيئة ريفية هامشية بعيدة عن العاصمة، وتمكنا من قيادة الرئاسة والحزب والسلطة بعد انقلابات عسكرية، وقضيا على خصومهما بدموية كبيرة. لعل هذه السلطوية والمركزية في الحكم، بالإضافة إلى الطبيعة الدينية لكل منهما (سني بعثي وعلوي بعثي)، هي التي أذكت الصراع بين الرجلين على مدى عقدين كاملين.
كان العراق وسوريا تحت حكم فصائل بعثية متصارعة، حيث اعتنق العديد من المدنيين والعسكريين في البلدين أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح البيطار. ورغم نجاح انقلاب البعث السوري عام 1963 ووصوله إلى الحكم، وفي العراق عام 1968، فإن انقلاب البعث السوري الثاني بقيادة العلويين وعلى رأسهم حافظ الأسد، ومطاردتهم لرفاقهم القدامى وحتى مؤسسي الحزب مثل ميشيل عفلق، أدى إلى اشتداد الصراع بين بعث سوريا وبعث العراق.
وعلى الرغم من محاولات المصالحة بين البعثين الحاكمين في عامي 1969 و1972، ودعم العراق لسوريا ضد إسرائيل خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، تدهورت العلاقات الثنائية مجددًا منذ عام 1975 بسبب انعدام الثقة. ولكن بعد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، رأى حافظ الأسد أن التقارب مع العراق هو الملجأ الوحيد لإعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة. وفي زيارة دولة إلى بغداد في أكتوبر/تشرين الأول 1978، وقع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس العراقي أحمد حسن البكر بشكل مفاجئ على “ميثاق العمل الوطني المشترك”، الذي ركز على التعاون والتكامل الاقتصادي والعسكري.
كان البكر ناقمًا على نائبه صدام حسين ويبحث عن وسيلة للتخلص منه، فوجد في مشروع الوحدة مع سوريا ضالته. كان من المقرر أن يرفع هذا المشروع متطلبات جواز السفر والتأشيرات بين الدولتين وتفتح الحدود المغلقة. وفي 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1978، أعلن الطرفان عن اتخاذ إجراءات فورية نحو التوحيد الكامل. لكن رغم الأهمية الكبرى للتعاون العسكري لسوريا، فشلت اللجنة الفرعية بسبب الاختلافات وانعدام الثقة المتبادل. لم تكن سوريا ترغب في تمركز القوات العراقية على أراضيها، ولم تكن مستعدة لحل كتائب النخبة المخصصة لحماية نظام البعث السوري. كما اختلفت وجهات النظر حول شكل الوحدة، حيث فضلت سوريا تحالفًا أو كونفدرالية فضفاضة، بينما دفع العراق نحو اتحاد كامل.
في 15 يناير/كانون الثاني 1979، وافقت سوريا والعراق رسميًا على تأسيس اتحاد مشترك باسم وعلم ورئيس مشترك أو مجلس رئاسي وحكومة اتحادية. واتفق على تناوب العراقيين والسوريين على منصب الرئيس، حيث تولى البكر الرئاسة مبدئيًا، بينما تولى الأسد قيادة الحزب في القطرين ونائب الرئيس. كانت الحكومة الفيدرالية ستتولى السياسة الخارجية والدفاع والثقافة المشتركة، وكان من المتوقع أن يتكون الجيش المشترك من 380,000 جندي و4300 دبابة و730 مقاتلة. ومع ذلك، ظهرت خلافات حول توجهات السياسة الخارجية لهذا الجيش، حيث سعت سوريا لتحقيق توازن عسكري مع إسرائيل ومصر، بينما طمح العراق لرد الثورة الإيرانية وزيادة نفوذه في الخليج العربي.
موافقة أحمد حسن البكر على رئاسة حافظ الأسد للاتحاد الجديد يبدو أنها سرّعت من الانقلاب الأبيض الذي قام به نائبه صدام حسين، الذي كان يسيطر عمليًا على الجيش. ضغط صدام على البكر لتقديم استقالته بحجة كبر سنه في يوليو/تموز 1979. ورغم تمسك صدام حسين بفكرة التكامل التدريجي في البداية، كشف في 28 يوليو/تموز عن مؤامرة مزعومة للإطاحة بالحكومة العراقية، متهمًا “قوة أجنبية” بالتورط. ورغم أن سوريا لم تُتهم مباشرة، أسفرت عملية التطهير داخل حزب البعث العراقي عن إعدام العديد من الأعضاء الداعمين للوحدة مع سوريا.
لقد رأى صدام حسين وحافظ الأسد أن كلًا منهما الأحق بالزعامة في الوطن العربي، ولم يكن يقبل أحدهما أن يكون الآخر زعيمًا عليه. ولهذا السبب، خرج صدام حسين في خطاب تلفزيوني مقترحًا إجراء انتخابات ديمقراطية بإشراف ممثلين عرب لاختيار الزعيم. وبسبب هذا الاختلاف، دخل العراق وسوريا في مشكلات أخرى فوق الانشقاقات الحزبية والمنافسة السياسية الجغرافية. وقع الشجار بين الرجلين على مسائل اقتصادية، وحصص كل منهما في مياه الفرات، وحول أنابيب النفط التي كانت تمر عبر الأراضي السورية ويسيطر عليها الأسد، مما أثار حفيظة صدام. وقد بنى العراق أنبوبًا آخر عبر تركيا، الأمر الذي أثار غضب الأسد.
هذا التنافر الشخصي والفكري والطائفي بين الرجلين جعل كلًا منهما عدوًا للآخر ومتوجسًا منه، حتى قرر حافظ الأسد دعم إيران أثناء الحرب الإيرانية العراقية بين عامي 1980-1988. هذا الأمر، الذي يرصده باتريك سيل في كتابه “الأسد، الصراع على الشرق الأوسط”، يُعد الأكثر جرأة في سياسة الأسد الخارجية، فقد أدى وقوفه مع الثورة الإيرانية إلى إنشاء محور شيعي يمتد من طهران عبر دمشق إلى جنوب لبنان. والأغرب، كما يرصد سيل، أن حافظ الأسد اعتبر مصادقة الخميني من مقتضيات المصلحة العربية العليا، بل حتى قبل قيام الثورة الإيرانية، مدّ حافظ الأسد يد المساعدة إلى بعض مساعدي الخميني، مثل إبراهيم يزدي ومصطفى شمران وصادق قطب زاده، الذين عملوا لاحقًا وزراء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث أعطى لكل منهم جواز سفر سوريًا مكنهم من القيام بنشاطهم بحرية ضد نظام الشاه.
اعتبر صدام حسين مصادقة وتحالف الأسد ودعمه الكبير للخميني والثورة الإيرانية إعلانًا للعداء بين سوريا والعراق. وحين انطلقت الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر/أيلول 1980، شجب الأسد حرب صدام واعتبرها خاطئة وحماقة ستؤدي إلى تمزق العرب أمام إسرائيل. ولكن وفقًا لباتريك سيل، فإن “الهم الذي كان يقلق الأسد في السر هو أن يحصل العراق على نصر سريع، فهذه نتيجة ستكون وخيمة وبيلة”. ولهذا السبب، أسرع الأسد إلى السفر نحو موسكو، ومن هناك أعلن مع بريجنيف، زعيم الاتحاد السوفيتي وقتها، تأييد “حق إيران الثابت في أن تقرر مصيرها بنفسها بصورة مستقلة وبدون أي تأثير أجنبي”.
وأمام موقف الأسد العلني في تأييده لإيران إبان الحرب مع العراق، أمر صدام باقتحام القوات العراقية السفارة السورية في بغداد في أغسطس/آب 1980، وطرد معظم موظفيها بتهمة تهريب بنادق ومتفجرات لأعداء صدام. وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قطعت بغداد علاقاتها مع دمشق وسط سيل من التهجمات والشتائم. وشرع صدام فيما اعتبره فضحًا لممارسات نظام حافظ الأسد على الملأ في الإعلام العراقي، حين قال إن الأسد طلب من العراق وقف إطلاق النار بـ”جبن” في اليوم الثاني من حرب أكتوبر/تشرين الأول سنة 1973، وإنه تدخل في الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1976 بالتواطؤ مع واشنطن وإسرائيل، وإنه المسؤول الأول عن مجزرة الفلسطينيين في تل الزعتر بلبنان، وإنه المتآمر الأول لتدمير مشروع الوحدة بين سوريا والعراق عام 1979.
في القمة العربية التي عقدت في فاس بالمغرب في أواخر عام 1981، حدثت مناوشة بدأها صدام حسين حين عيّر الأسد بوقوفه مع إيران ضد دولة عربية، ووصل الأمر إلى السباب العلني، وهو ما شهده مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. وكادت الأمور تصل بين الرجلين إلى ما لا يُحمد عقباه لولا تدخل الملك الحسن الثاني ملك المغرب، الذي أصر على تهدئة الأمور. ولهذا السبب، في العام التالي 1982، قرر حافظ الأسد إغلاق حدود سوريا مع العراق، وكذلك – وهو الأشد – إغلاق الأنبوب الذي ينقل النفط العراقي عبر الأراضي السورية صوب البحر المتوسط، ومنع السوريين من السفر إلى العراق، بل كُتب على جواز السفر السوري ممنوع السفر إلى إسرائيل والعراق. وفي الوقت نفسه، عقد مع إيران اتفاقًا تجاريًا واسعًا يضمن لسوريا الحصول على النفط الإيراني لسنوات عديدة بأسعار تفضيلية، وسهل حافظ الأسد من استقبال الإيرانيين والإيرانيات لزيارة مقام السيدة زينب في دمشق، وزيادة التعاون الثقافي والسياسي والاقتصادي بين البلدين.
في دراسة أعدتها المخابرات الأميركية عام 1984 لفهم جذور الخلافات السورية العراقية، تناولت واشنطن التشابه الكبير في المسيرة السياسية لكل من حافظ الأسد وصدام حسين، خاصة في نشأتهما الريفية المشتركة. ويعتقد الباحث والمؤرخ الأميركي توماس شوارتز أن “شخصية الرجلين كانت ذات تأثير كبير، حيث كان كلاهما قاسيًا ويفتقر إلى الثقة في الآخرين”. كما يشير شوارتز إلى أن “الأسد وصدام كانا يعشقان السيطرة والهيمنة، مما جعل أي تعاون بينهما أمرًا مستحيلًا”.
ولكن في مسعى من الملك حسين، عاهل الأردن، لسد الفجوة بين الأسد وصدام، أصر على إجراء لقاء سري يجمع بينهما في الأردن. ووفقًا لمذكرات عبد الحليم خدام، نائب الأسد وقتها، اقترح صدام حسين على حافظ الأسد مناقشة عدة قضايا، شملت الموقف السياسي من اتفاقية كامب ديفيد، وفكرة الوحدة بين البلدين، والتعاون الاقتصادي، وإعطاء الطرفين حق التدخل العسكري إذا تعرض أي منهما لاحتلال. وأشار خدام إلى أن الأسد أبلغ الأردن بأن الاجتماع سيعقد في موسكو يوم 21 فبراير/شباط 1987. وبعد أيام، وافق صدام على عقد الاجتماع، لكنه طلب أن يجري مندوبان من الجانبين السوري والعراقي لقاء تمهيديًا لتحضير جدول الأعمال. وبالفعل، اجتمع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مع نظيره العراقي طارق عزيز في مارس/آذار من العام نفسه لمناقشة التحضيرات لقمة تجمع صدام والأسد.
وقد جرى لقاء آخر عقد في مايو/أيار من العام نفسه في الأردن بين صدام والأسد بحضور الملك حسين لمحاولة الصلح بين الطرفين، وإيجاد تفاهمات مشتركة بخصوص مصالح كل دولة، بل وعقد وحدة مشتركة بين الدول الثلاثة بما فيها الأردن، حتى قال صدام قبل اللقاء: “ماكو مصافحة وأنا رئيس العراق وسوريا والأردن”. ولكن الاجتماع بين صدام والأسد باء بالفشل بسبب انعدام الثقة بينهما، وبسبب رفض الأسد إدانة الجانب الإيراني في الحرب العراقية الإيرانية الدائرة وقتها، واعتقاده أن صدام يبحث عن مصالح العراق فقط دون مصالح سوريا. الأمر اللافت أن رئيس أركان الجيش العراقي الأسبق، نزار الخزرجي، ذكر في شهادته لأحد البرامج الحوارية أن لقاء آخر كان يُرتَّب للجمع بين الرئيسين صدام والأسد على الحدود العراقية السورية في أواخر الثمانينيات لتقريب وجهات النظر، وطي خلافات الماضي بينهما. وقد حذّر الخزرجي صدام حسين بأن حافظ الأسد سليط اللسان وقد يتطاول أثناء كلامه، فما كان من صدام إلا أن وجه أمره لأحد مرافقيه قائلًا: “إذا تطاول حافظ الأسد فاعتقله على الفور، وإذا قاوم فأطلق عليه الرصاص”، الأمر الذي يكشف أن العلاقة بين الرجلين بلغت إلى حد الثأر الشخصي بينهما، وأن صدام كان مستعدًا لقتل الأسد لمجرد التطاول عليه.
استمر العداء كما هو حتى وقع زلزال كبير في المنطقة، ففي 2 أغسطس/آب 1990، استفاق العالم العربي على حدث ضخم، حين قرر صدام حسين غزو الكويت بعد سلسلة من الخلافات المتصاعدة، مما أدى إلى انهيار علاقاته مع دول الخليج وخسارة كل التعاطف الذي ناله أثناء الحرب مع إيران. وفي الشهر نفسه، انطلق حافظ الأسد للقاء الرئيس الإيراني وقتها علي أكبر رافسنجاني، وبحسب كتاب عبد الحليم خدام نائب الأسد “التحالف السوري الإيراني والمنطقة”، فإن كلًا من إيران وسوريا كانتا تستشعران القلق الشديد من هجوم صدام حسين على الكويت، ليس بسبب مناهضته للقانون الدولي وتعديه على حقوق الغير فقط، بل وخوفًا من زيادة سطوة صدام ونفوذه في المنطقة مع سيطرته على البترول الكويتي، وأيضًا بسبب ردة فعل الدول الغربية التي ستأتي وتستقر في المنطقة مما يهدد كلًا من إيران وسوريا.
ولكن حافظ الأسد، نكاية في غريمه وعدوه اللدود صدام، قرر أن ينضم إلى التحالف الدولي الذي رعته واشنطن لطرد القوات العراقية من الكويت. فقد التقى الأسد مع جورج بوش في جنيف، ومن ثم قررت دمشق رسميًا المشاركة في التحالف الدولي. وهُزم العراق في حرب الخليج في العام التالي، كما واجهت بغداد حصارًا اقتصاديًا وسياسيًا مؤثرًا في التسعينيات بسبب العقوبات الدولية، وهو الأمر الذي جعل الأسد يشعر بالراحة والطمأنينة من انكسار غريمه صدام.
وبعد سنوات من الشكوك والمؤامرات والعداوة، شهد منتصف التسعينيات عودة التواصل بين الرجلين عبر قنوات غير علنية ولقاءات سرية على مستوى السفراء، حيث تبادلا رسائل سرية كشفت عن رغبة بغداد الشديدة في استعادة العلاقات بين البلدين. لكن عودة العلاقات جاءت في الوقت بدل الضائع بعد وفاة حافظ الأسد سنة 2000، حيث كان نظام صدام حسين يوشك على السقوط، وهو ما حدث في عام 2003 حين انهار نظامه، وتشكّل نظام جديد كان لإيران فيه النفوذ الأكبر، الأمر الذي عزز من نفوذ وقوة محور طهران – دمشق – جنوب لبنان. وذلك قبل أن تندلع الثورة السورية في عام 2011، التي أدت في نهاية المطاف بعد 13 عامًا إلى سقوط نظام الأسد الابن، في إعادة لمشهد سقوط نظام صدام حسين، فكان من عجائب الأقدار أن يشهد صعود نظام صدام والأسد المقدمات نفسها، وأيضًا يواجه النظامان النتائج عينها، وذلك السقوط والاندثار.
سياسة
سياسة
سوريا محلي
سياسة