كتاب "داخل خدر شهرزاد": خالد البقالي القاسمي يُعيد مساءلة الرواية العربية من منظور وجودي عميق


هذا الخبر بعنوان "كتاب: “داخل خدر شهرزاد ـ نحو إزاحة الستارة عن عالم الرواية” للناقد د. خالد البقالي القاسمي" نشر أولاً على موقع syriahomenews وتم جلبه من مصدره الأصلي بتاريخ ٢٤ كانون الأول ٢٠٢٥.
لا يتحمل موقعنا مضمونه بأي شكل من الأشكال. بإمكانكم الإطلاع على تفاصيل هذا الخبر من خلال مصدره الأصلي.
يُقدم الناقد والباحث الأستاذ خالد البقالي القاسمي، في كتابه الموسوم "داخل خدر شهرزاد ـ نحو إزاحة الستارة عن عالم الرواية"، الصادر عن منشورات مكتبة سلمى الثقافية عام 2025، مشروعًا نقديًا متكاملًا يتجاوز مجرد كونه دراسة في الرواية العربية. فمنذ صفحاته الأولى، يتضح أن القاسمي يُعيد مساءلة الرواية من صميم أسئلتها الوجودية العميقة، مثل الغربة، العدم، الهوية، الحلم، الزمن، والكتابة بوصفها تجربة عيش لا مجرد خطاب تفسيري. لا يتعامل القاسمي مع الرواية كبنية سردية قابلة للتشريح المنهجي فحسب، بل كفعل وجودي، ويرى النقد عنده ليس ممارسة فوقية، بل تفكيرًا ينبع من داخل الجرح الروائي ذاته. ويُشير الكاتب في تقديمه لمُنجزه، ص5، إلى أن "الرواية تتوفر على قدرة فائقة على إبراز الجنوح إلى التماهي مع الممكن والمُتخيل، مع الفرد والجماعة، ومع العقل والنفس."
يُشكل فهرس الكتاب خريطة دلالية دقيقة لهذا المشروع النقدي، حيث تتوزع فصوله بين محاور كبرى تشمل الرواية والغربة، الرواية والعدم، الرواية والمرأة، الرواية والذاكرة والتاريخ، الرواية واللون والحلم والهوية، وصولًا إلى المكان والزمن بوصفهما فضاءين متوترين للكتابة. وقد اختار عبدالحميد البجوقي، في قراءته الأولى هذه، التركيز على فصل "الرواية والغربة"، مُفضلًا مصطلح "المنفى" للتعبير عن هذه الحالة. ويرى البجوقي أن مُجاورة هذا الفصل لفصل "ثقافة الجذور" لم تكن اعتباطية، بل تنتظم في نسق فكري واحد يجعل من الغربة محورًا أنطولوجيًا جامعًا تتفرع عنه بقية الأسئلة.
ليست الغربة هنا مجرد تيمة سردية أو إحساس نفسي عابر، بل هي شرط كينوني يؤسس لفعل الحكي ذاته، ويمنح الرواية معناها بوصفها محاولة دائمة للعودة من العدم، أو النجاة المؤقتة منه. يُمارس القاسمي نقده من داخل التجربة، لا من خارجها؛ فهو لا يبحث عن خلاصات جاهزة أو تصنيفات مُريحة، بل يرافق النصوص في توترها، ويحاسبها بمعيارها الأخلاقي والجمالي معًا. لذلك، لا يتردد في مساءلة الرواية حين تُفرغ الغربة من بعدها المركب، أو حين تتحول الأحلام إلى طموحات فردية ضيقة، فيتحول السرد من كشف وجودي إلى تبسيط سردي.
ما يمنح هذا العمل قيمته الإضافية هو أن لغته النقدية نفسها تنخرط في الرهان الذي تطرحه؛ لغة تبدو مترددة، مشدودة إلى السؤال، ترفض الادعاء، وتكتب النقد بوصفه إبداعًا ثانيًا لا ظلًا باهتًا للنصوص المقروءة. هكذا، يصبح الكتاب شهادة على إمكانية نقد عربي معاصر لا يكتفي بالتحليل، بل يغامر بالتفكير، ويجعل من القراءة تجربة وجودية موازية لتجربة الرواية. إن عنوان "داخل خدر شهرزاد" يوحي بإبداع روائي يمنح الكتاب وهجًا وجاذبية تُغري بالقراءة، ويُعد هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، ليس فقط بما يقدمه من قراءات عميقة ومتنوعة، بل بما يقترحه من تصور جديد للنقد؛ نقد لا يشرح بقدر ما يفكّر، ولا يُطمئن بقدر ما يوقظ، ويُعيد الاعتبار للرواية بوصفها سؤالًا مفتوحًا على المعنى والعدم معًا.
في الفصل الذي خصصه الأستاذ خالد البقالي القاسمي للرواية والغربة وثقافة الجذور، والذي يمتد من ص35 إلى ص39، واستوقف عبدالحميد البجوقي بحكم تجربته الحياتية والأدبية كروائي، لا نكون إزاء "شرح" دقيق لمفهوم الغربة فحسب، بل أمام تفكير بها ومن داخلها؛ تفكير يجعل من النقد ذاته تجربة وجودية موازية لتجربة الرواية التي يقرأها، لا خطابًا فوقيًا يحاكمها أو يختزلها في نتائج جاهزة. ويُبرز البجوقي أن ألمع ما في هذا الفصل هو نقل الغربة من حيّز الموضوع إلى حيّز الوجود.
لم يتعامل القاسمي مع الغربة كدلالة اجتماعية أو نفسية فحسب، بل كشرط كينوني يتأسس عليه الفعل الروائي ذاته. لذلك، يربطها منذ البداية بـ"العدم"، لا باعتباره نقيض الوجود، بل باعتباره منبعه الملتبس، متسائلًا: "كيف نعيش عندما نعود من العدم؟ وكيف نكتب انطلاقًا من هذا العدم؟" هنا تتبدى حساسية فلسفية عميقة تستثمر الإرث الفينومينولوجي ليس على مستوى الإحالة النظرية، بل على مستوى طريقة النظر. فالرواية هنا، وكما يُلمِّحُ الأستاذ القاسمي، ليست حكاية عن الحياة، بل محاولة للنجاة منها، والكتابة في ومن الغربة ليست تعبيرًا، بل فعل عودة مرتبك من هوة الوجود.
من "الإحساس بالضياع" إلى "توثيق للضياع"؛ هكذا يرى الأستاذ البقالي القاسمي الرواية والغربة، ويربطها بثقافة الجذور. ويُحقق هذا الفصل انزياحًا نقديًا بالغ الذكاء حين يُميّز بين الغربة كإحساس والغربة ككتابة. فالغربة الروائية ليست شكوى ولا نواحًا، بل أرشفة دقيقة للفقد والتشظي والإحساس بالضياع. إنها، كما يقول القاسمي، توثيق للضياع لا بهدف تجاوزه، بل بهدف منحه شكلًا سرديًا يقيه من التبديد. هنا يضع القاسمي إصبعه على الجرح ويُتقن تشريح الكتابة الروائية في ومن المنفى أو الغربة على حد تصنيفه، لتصبح الرواية فعل مقاومة هادئة؛ مقاومة النسيان، مقاومة التفاهة اليومية، ومقاومة الحاضر الذي يفرض نفسه بوصفه الزمن الوحيد الممكن.
يلتقط القاسمي بمهارة العلاقة بين الغربة واستباق المستقبل، فالشخصيات الغريبة لا تعيش الحاضر لأنها مشدودة إلى أحلام لم تتحقق بعد، أو إلى ماضٍ لم يُستكمل. وتُمثل الفقرة التي تتناول مساءلة رواية الغربة ذروة أخلاقية ومعرفية في القراءة النقدية. هنا لا يُجامل القاسمي رواية الغربة، بل يحاكمها بمعيار الغربة نفسها، خاصة حين تتحول فيها الأحلام إلى طموحات شخصية ضيقة، أو حين تفقد الغربة بُعدها المركّب، وتسقط الرواية في فخ التبسيط.
لكن عظمة هذا النقد تكمن في أنه لا يُدين من الخارج، بل يكشف المفارقة من داخل منطقها. فرواية الغربة عند خالد البقالي لا تخون الغربة إلا حين تتوهم امتلاكها، والروائي لا يفقد عريه إلا حين يظن أنه وحده من يمتلك "الحلول". هنا تأتي الجملة القاسية والجميلة معًا: "يكتشف الروائيون في هذه الحالة أنهم لا يملكون إلا عريهم.." (ص37). إنها جملة تُلخّص رؤية كاملة للأدب، تعني أن الكتابة ليست سلطة، بل انكشاف، أو بالأحرى "كشفُ عورة".
يتجاوز هذا الفصل النزعة الفردانية في قراءة الغربة، لينتهي إلى أفق وجودي قاتم، لكنه صادق حين يجزم بصراحة أن الغربة حين تُساء كتابتها لا تُنتج وعيًا، بل تراكمًا للألم. وحين يعجز الروائي عن تفكيكها، تتحول إلى قوة سلبية تدفع الجميع نحو اليأس والإحباط والعدم. هنا يلامس القاسمي تخوم النقد الثقافي، دون أن يقع في المباشرة أو الخطابية. فالرواية بالنسبة له ليست بريئة، وهي مسؤولة – أخلاقيًا وجماليًا – عن الطريقة التي تصوغ بها الألم.
ربما أجمل ما في هذا النص أن لغته تُشبه فكرته. فالجُمل ليست تقريرية، بل متوترة، مترددة أحيانًا، كما لو أنها تكتب نفسها على حافة السؤال. وهذا ما يجعل النص النقدي نفسه نصًا يعاني من "الغُربة أو النفي" بالمعنى النبيل للكلمة؛ نص لا يطمئن إلى خلاص، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة، بل يترك القارئ في حالة تفكير قلِق ومنتج. ويُقدر عبدالحميد البجوقي أن الأستاذ خالد البقالي القاسمي أنجز في هذا الإصدار البديع نقدًا يفكر ولا يشرح، يسائل ولا يعلّق، ويغامر بدل أن يُطمئن. فنصه لا يضيف معرفة عن الرواية والغربة بقدر ما يُعيدنا إلى شرطها الأول: الهشاشة، واللايقين، والكتابة بوصفها محاولة مُستحيلة لكنها ضرورية للنجاة من العدم.
يدعو الكاتب في هذا العمل بجرأة ووضوح إلى قراءة تليق بالرواية حين تكون فعل وجود، وتليق بالنقد حين يكون إبداعًا ثانيًا لا ظلًا باهتًا للأدب، وفي هذا أبدع ويُبدع الأستاذ خالد البقالي القاسمي.
ثقافة
ثقافة
ثقافة
ثقافة