في أمسية حارة بإحدى قرى ريف حلب الشمالي، توجه أسامة، وهو أب لطفلة صغيرة، إلى الصيدلية. لم يتمالك قلقه وهو ينتظر أن يعطيه الصيدلاني الدواء المضاد للالتهاب لابنته. يقول بصوت مرهق: "اشتريت الدواء نفسه أمس من صيدلية قريبة بـ 15 ألف ليرة، واليوم أجده بـ 18 ألفاً على بعد أقل من كيلومتر واحد فقط. كيف يمكن أن يختلف سعر الدواء بهذا الشكل؟ نحن نتحدث عن صحة أطفالنا، لا عن سلعة كمالية". قصة أسامة ليست فريدة، بل تعكس معاناة مئات العائلات في أرياف حلب، حيث أصبح الحصول على الدواء رحلة شاقة تبدأ بالبحث عن صيدلية تملك الدواء وتنتهي بصدمة تفاوت الأسعار، في ظل وضع يصفه السكان المحليون بأنه مزيج من الغلاء وضعف القدرة الشرائية والبعد عن مراكز المدن.
ريف حلب.. سوق واعدة
على الرغم من أن المدن الكبرى مثل حلب تبدو للوهلة الأولى أكثر جاذبية لشركات الأدوية، إلا أن شهادات عدد من مندوبي هذه الشركات تكشف أن الريف بات يحظى بالأولوية. يقول "أمير . ح"، وهو مندوب لإحدى شركات الأدوية: "المدينة لديها بنية تحتية جيدة وصيدليات ومستودعات كافية، مما يجعل عملية التوزيع فيها أقل تعقيداً. أما الريف فهو سوق واعدة ويضم عدداً كبيراً من السكان الذين يحتاجون إلى الدواء يومياً، لذلك تنظر إليه الشركات على أنه فرصة وليس عبئاً". لكن هذا التوجه لا يخفي حقيقة أن الريف يواجه تحديات معقدة تجعل التخديم الدوائي أكثر صعوبة من أي مكان آخر.
عقبات على الطريق
المناطق البعيدة مثل عين العرب أو القرى الواقعة على أطراف ريف حلب الشرقي تتطلب رحلات طويلة عبر طرق ترابية أو وعرة. يقول أحد السائقين العاملين مع شركات التوزيع: "أحياناً نضطر لاستخدام سيارتين أو أكثر لإيصال شحنة صغيرة من الأدوية، وهذا يضاعف التكلفة ويؤخر وصول الدواء. وكلما طالت المسافة، زادت تكلفة النقل، وهو ما ينعكس على سعر الدواء". يؤكد بعض الصيادلة أن فرق 3 آلاف ليرة بين صيدلية وأخرى يعود بشكل رئيسي إلى أجور النقل، بالإضافة إلى الطرق غير المعبدة وعدم وجود مستودعات مجهزة للتخزين، وكلها تحديات تقلل من انتظام الإمداد الدوائي. يقول "إسماعيل . ع"، من سكان ريف مسكنة: "حتى لو كان الدواء متوفراً، فإن الكثير من الأهالي لا يملكون ثمنه. نحن نعمل بالزراعة أو بأعمال بسيطة، والدخل لا يكفي لمعيشة عائلة، فكيف الحال مع أسعار الأدوية التي ترتفع باستمرار؟".
ابتكارات الشركات لتجاوز الأزمة
على الرغم من هذه العقبات، لم تستسلم شركات الأدوية، بل طورت آليات لضمان استمرار التوزيع، حيث يتكفل مندوب واحد بخدمة عدد من الصيدليات في منطقة محددة مثل أعزاز أو الباب بسيارة واحدة. هذه الطريقة سريعة، لكنها مكلفة. وهناك مستودعات صغيرة أنشأتها بعض الشركات كمستودعات متوسطة الحجم في نقاط استراتيجية تعمل كوسيط بين الشركات الكبرى والصيدليات، لتكون مركزاً للربط يتم عبرها تجميع الأدوية في مركز واحد قريب، ثم توزيعها على القرى المحيطة وفق احتياجاتها. يقول المندوب "أحمد. ج": "هذه الآليات تساعدنا على الاستمرار، لكنها مؤقتة. ما نحتاجه هو شبكة متكاملة على غرار ما هو موجود في المدن".
مناطق ذات أولوية
وضعت الشركات قائمة بالمناطق الريفية التي تحظى بأولوية خاصة، مثل منطقة السفيرة لكونها مركزاً سكانياً كبيراً وعقدة مواصلات، والحاضر كموقع يتوسط عدداً من القرى، وكذلك الخفسة ذات الكثافة السكانية العالية وتحتاج إلى الدواء بشكل دائم. يقول مندوب آخر: "إذا انقطعت الأدوية في هذه المناطق، فستكون النتائج كارثية صحياً واجتماعياً".
بين التسعير والاستغلال
أما المناطق البعيدة مثل عين العرب، فتمثل تحدياً خاصاً. هناك تعتمد الشركات على تخزين كميات من الدواء في مستودعات قريبة نسبياً، ثم تعيد توزيعها عبر صيدليات صغيرة، وأحياناً يتم اللجوء إلى وسائل نقل متنوعة. يكشف أحد الصيادلة في المنطقة أن هناك خططاً لإدخال هذه الأرياف تدريجياً ضمن شبكة التوزيع الرسمية خلال الفترة المقبلة. المشكلة الكبرى التي يشكو منها الأهالي هي تفاوت الأسعار بين صيدلية وأخرى. أسامة ليس الوحيد الذي واجه هذه الصدمة.
يقول "هيثم . ك"، صيدلاني بريف حلب: "التفاوت قد يشمل كل أنواع الأدوية، والسبب الرئيس هو اختلاف المستودعات التي نشتري منها، فبعضها يبيع بأسعار مرتفعة بسبب أجور النقل أو ندرة بعض الأصناف. لكن الأمر لا يتوقف هنا، فغياب الرقابة جعل بعض الصيادلة يرفعون الأسعار بشكل غير مبرر". ويضيف هيثم: "لا أنكر أن هناك تجاوزات، فبعض الصيادلة يبيعون بسعر أعلى تحت ذريعة اختلاف المصدر، وهذا استغلال صريح".
شهادات من الأهالي
تقول "أم وليد"، من قرية قرب الحاضر: "أحياناً أذهب إلى ثلاث صيدليات لأبحث عن دواء واحد لطفلي، والأسعار تختلف، وأحياناً لا أجد الدواء أساساً، وفي النهاية أشتري من أول مكان أجده، لأن الوقت لا يسمح بالمزيد من البحث". يروي "جمعة. ح"، مزارع من ريف أعزاز: "مرة اضطررت لدفع ثمن وصفة دواء ضعف ما كنت أتوقع، فقط لأن الصيدلاني قال إن الدواء مقطوع ولا يتوفر إلا عنده، ماذا أفعل؟ أعود بلا دواء؟".
تبريرات الصيادلة
من جهتهم، يرى بعض الصيادلة أن الأمر ليس استغلالاً دائماً، بل نتيجة طبيعية لاختلاف الظروف. يقول صيدلاني فضّل عدم ذكر اسمه: "نسبة الربح لدينا لا تتجاوز 25% من سعر الدواء، وأحياناً تكون أقل بكثير، والمشكلة في المستودعات التي تزودنا بالدواء بأسعار مختلفة، إضافة إلى أجور النقل. نحن أيضاً نعاني مثل المرضى". ويضيف: "هناك صيادلة يلتزمون بالتسعيرة القديمة حتى بعد انخفاض أو ارتفاع الأسعار، مما يزيد من تفاوت الأسعار، وبعضهم أيضاً يقدم عروضاً لجذب الزبائن".
غياب الرقابة
يرى الأهالي أن السبب الأكبر لفوضى الأسعار هو غياب الرقابة الحقيقية. يقول "أبو محمد"، من سكان ريف الباب: "لا توجد جهة تراقب الصيدليات، وكل واحد يبيع بالسعر الذي يراه مناسباً، ونحن الضحية في النهاية". يحمل عدد من الأهالي المسؤولية للجهات المعنية بالصحة، التي لم تتخذ حتى الآن إجراءات صارمة للحد من هذه التجاوزات، مما جعل المواطن الحلقة الأضعف في معادلة الدواء. وكالعادة خاطبنا فرع نقابة الصيادلة بحلب منذ أيام بهدف إيضاح العديد من النقاط المثارة حول هذه المسألة التي تهم مختلف شرائح المجتمع، إلا أن أحدا لم يتجاوب معنا للأسف.
أبعاد إنسانية واجتماعية
إيصال الدواء إلى الأرياف لا يقتصر على البعد الاقتصادي، بل يمتد إلى تأثيرات إنسانية واجتماعية عميقة منها الحد من هجرة السكان نحو المدن بحثاً عن العلاج، وتعزيز الثقة بين المواطن والشركات، وتحسين الصحة العامة وتقليل الضغط على المشافي، وخلق فرص عمل لمندوبي وسائقي نقل وعمال مستودعات.
خاتمة وتوصيات
من خلال ما سبق، يتضح أن الريف الحلبي أصبح في قلب خطط شركات الأدوية، لكنه ما يزال يواجه تحديات كبيرة تتعلق بغلاء الأسعار وبعد المسافات وضعف البنية التحتية. الحلول المؤقتة مثل المستودعات الصغيرة والمندوبين بالسيارات خففت جزءاً من الأزمة، لكنها لا تكفي، والمطلوب هو بناء شبكة متكاملة للتوزيع تغطي جميع القرى بشكل عادل، مع تشديد الرقابة على الأسعار، وتوفير دعم حكومي أو منظمات إنسانية لتخفيف العبء عن الفئات الأشد فقراً، فالأهالي لا يطالبون إلا بحق أساسي، وهو أن يجدوا الدواء متوفراً بالسعر العادل في صيدلية قريبة، دون أن يضطروا لقطع كيلومترات أو دفع أضعاف ما يملكون.