في زمنٍ تتصاعد فيه الأصوات وتشتد الاستقطابات، يرى البعض في الصمت جريمة وفي الحياد خيانة. وكأنّ الجميع مطالبون بأن يكونوا جنوداً في المعركة أو منشدين في الحشود، وإلا اتُهموا بالنفاق والخذلان. لكنّ الحقيقة أوسع من هذا التصنيف الضيق، كما يرى المهندس نضال رشيد بكور.
فمن الناس من يلتزم الصمت ليس جبناً ولا نفاقاً، بل حرصاً على بقاء جذوة الحياة في بيته، وعلى صون عرضه وأهله، وعلى حماية ما تبقى من مدينته من الانهيار والدمار. أليس في التاريخ شواهد تدل على أن الحياد قد يكون خياراً مشروعاً، بل حكيماً في بعض الأحيان؟
لقد اختار بعض الصحابة الكرام الاعتزال حين اشتدت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ومنهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، فلم يُعتبر موقفهم نفاقاً ولا خيانة، بل رآه التاريخ اجتهاداً مشروعاً في ظرف عصيب. وكذلك فعل العباس بن عبد المطلب، عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، حين آثر السكوت حتى انكشفت الغمة وظهر الحق جلياً. بل إن رسول الله نفسه أوصى بعض أصحابه بكتمان إسلامهم حفاظاً على حياتهم حتى يأذن الله بالفرج.
فالسكوت إذاً ليس دائماً تقاعساً، ولا الحياد دوماً خذلاناً. أحياناً يكون الحياد حماية، ويكون الصمت موقفاً. أليس من الحكمة أن يبقى في المدن من يحرس البيوت، ويحافظ على النسيج الاجتماعي من التمزق، ويمنع الأرض من أن تصبح فراغاً يملؤه غريب أو دخيل؟ لولا بقاء هؤلاء، أكان يمكن أن يعود إليها أهلها سالمين مطمئنين؟
ثم إن القرآن والسنة قد قرّرا مراتب الإيمان والتكليف: فمن رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. فأين موقع "أضعف الإيمان" من معادلة من لا يعترف إلا بصوت مرتفع أو بندقية مشرعة؟
إن الإنصاف يقتضي أن نفهم الظروف لا أن نُطلق الأحكام. فليس كل مهاجرٍ خرج إنما خرج لله، ولا كل صامت إنما صمت خوفاً أو خيانة. الحقيقة أعقد من ذلك، والناس طبقات ومراتب، ولكلٍ ظرفه ومبرراته.
إن الوطن لا يُبنى بالتجريح ولا بالتخوين، بل بالاعتراف بتنوع المواقف، واحترام خيارات الناس ما دامت لم تكن خيانة صريحة أو عمالة معلنة. وما أحوجنا اليوم إلى خطاب يجمع ولا يفرّق، يضمّد الجراح ولا يفتحها، يزرع الثقة بدلاً من الشك.
إن إعادة إعمار الحجر أمرٌ هيّن إذا ما قيس بإعادة إعمار النفوس، وما لم نؤمن أن الصمت أحياناً قد يكون لغةً من لغات المقاومة، وأن الحياد قد يكون جسراً لعبور المرحلة، فإننا سنظل ندور في دوامة الاتهام والتخوين.
فليدم الوطن بخير، ولتدم الكلمة الحرة التي تعيد للناس كرامتهم، وتحميهم من قسوة الأحكام الجائرة.
(موقع اخبار سوريا الوطن-2)