الخميس, 4 ديسمبر 2025 02:33 PM

تحليل معمق: لماذا تعاني تركيا في التغلب على أزمتها الاقتصادية المستمرة؟

تحليل معمق: لماذا تعاني تركيا في التغلب على أزمتها الاقتصادية المستمرة؟

يشهد الاقتصاد التركي أزمة حادة منذ حوالي خمس سنوات، وتحديدًا بين عامي 2021 و2023، حيث تم تطبيق ما يسمى «نموذج الاقتصاد التركي». هذا النموذج، الذي تم التخلي عنه الآن، كان يهدف إلى خفض الفائدة لتحقيق الصادرات والفائض في الحساب الجاري، متحديًا بذلك علم الاقتصاد التقليدي. وقد أدى ذلك إلى أضرار عميقة ودائمة في الاقتصاد على المدى القصير، وفقًا لما ذكره إسلام أوزكان.

الخيار الأساسي للنموذج، وهو خفض أسعار الفائدة في ظل ارتفاع التضخم، تسبب في تدهور سريع لقيمة الليرة التركية. وعلى الرغم من ادعاء إردوغان بأنه خبير اقتصادي، إلا أن النماذج التي طرحها وتصريحاته حول العلاقة بين الفائدة والتضخم أظهرت ضعف معلوماته الاقتصادية. أما مستشاروه، فإما ترددوا في تحذيره من هذه القرارات التي أحدثت دمارًا كبيرًا في الاقتصاد التركي، أو أظهروا قصورًا فادحًا في أداء واجبهم.

يؤكد أوزكان أن حتى طالب جامعي مبتدئ في علم الاقتصاد يدرك أن الفائدة هي نتيجة للتضخم وليست سببًا له، وأن السيطرة على التضخم لا يمكن أن تبدأ إلا بالحفاظ على قيمة الليرة التركية. ومع ذلك، ظل المسؤولون الاقتصاديون في تركيا يتفرجون على ما يحدث، وأدى الارتفاع غير المنضبط لسعر الصرف، بسبب الاعتماد الهيكلي للاقتصاد التركي على الواردات، إلى انفجار تكاليف الإنتاج والمستوى العام للأسعار، مما خلق حلقة مفرغة من التضخم المرتفع أدت إلى تآكل مدخرات الليرة وخفض القوة الشرائية للأسر بشكل كبير.

أدت هذه السياسات الاقتصادية، التي لا تتوافق حتى مع بيانات علم الاقتصاد غير التقليدي، إلى رفع عدم القدرة على التنبؤ إلى أعلى مستوياته في الأسواق المالية. واقترن هذا التنبؤ غير الموثوق به بمخاوف بشأن سيادة القانون واستقلالية البنك المركزي، مما أدى إلى ارتفاع علاوة المخاطر السيادية للبلاد وجعل تركيا دولة مكلفة من حيث التمويل. ولم يؤدِّ فقدان ثقة السوق إلى عدم جذب المستثمرين الأجانب فحسب، بل أدى أيضًا إلى تسريع تحول المقيمين إلى العملات الأجنبية (الدولرة)، مما شكل ضغطًا مستمرًا على احتياطيات البنك المركزي التركي.

أما أدوات مثل ودائع الليرة المحمية من تقلبات العملة، فبالرغم من أنها صُمّمت لامتصاص صدمة سعر الصرف، إلا أن إصرار البنك المركزي المستمر على سعر الفائدة المنخفض قد حمّل المالية العامة وميزانية البنك المركزي عبئًا ثقيلاً. لقد عملت هذه الأداة على نقل هذه التكاليف إلى الخزانة العامة، مما زاد من تعقيد عملية مكافحة التضخم.

يشير أوزكان إلى أن التأخر في التحول إلى السياسات التقليدية وعدم التوافق مع التغيير الذي طرأ على الإدارة الاقتصادية في منتصف عام 2023، أشار البنك المركزي التركي إلى العودة إلى السياسات الأرثوذكسية (التقليدية) من خلال زيادة أسعار الفائدة بشكل حادّ. ومع ذلك، يربط الخبراء عدم الشعور بتأثير هذا التحوّل بالكامل لسببين رئيسيين: أولاً، التأخير في السياسة والجمود. لقد أدى التأخير في عمليات اتخاذ القرار الاقتصادي وعدم قدرة صانعي السياسات على بناء تواصل مُقنِع إلى صعوبة كسر جمود توقّعات التضخم. فالخطوات التشديدية التي اتُّخذت بعد أن انتشرت آثار الأزمة في جميع مفاصل الاقتصاد تتطلّب، بطبيعة الحال، فترة تعافٍ أطول. وقد أشار البروفيسور إيسفيندير كوركماز إلى أن تأخّر التدخلات المطلوبة للأزمة هو أكبر عامل جعل الأزمة مزمنة.

ثانيًا، عدم التوافق بين السياسة النقدية والمالية. النقطة الأهم التي وُجّه فيها النقد إلى البرنامج الاقتصادي الجديد هي عدم التوافق بين السياسة النقدية (الفائدة المرتفعة والائتمان المشدّد) والسياسة المالية (الإنفاق العام والضرائب). وقد أكّد البروفيسور الدكتور أوغوز إيسن مراراً أن برنامج مكافحة التضخم ظلّ «يعمل بساق واحدة»، وأن دعم السياسة المالية، مثل الادّخار العام والانضباط في الميزانية وإصلاح الضرائب، كان غير كافٍ. إن استمرار الإنفاق العام والعجز في الميزانية يحافظ على حيوية الطلب المحلي، ما يضعف تأثير تشديد السياسة النقدية الذي حقّقه البنك المركزي بسلاح الفائدة. وتُعد هذه نقطة احتكاك حاسمة أدّت إلى عدم انخفاض التضخم بالسرعة المُستهدفة.

إلى جانب الأخطاء السياسية القصيرة الأمد، فإن المشاكل الهيكلية التي لم تُحل في الاقتصاد التركي لسنوات قد وفّرت الأرضية لتعميق الأزمة. إن الاعتماد المفرط لنموذج النمو التركي على قطاعات البناء والتقنيات المنخفضة الموجّهة للسوق المحلي، بدلاً من الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية، يعيق الاستدامة الطويلة الأمد. وقد أشار العديد من الاقتصاديين إلى أن توجيه رأس المال نحو المجالات ذات العائد المضاربي المرتفع (مثل العقارات والأدوات المالية القصيرة الأجل) أدّى إلى الابتعاد عن الاستثمارات الطويلة الأمد والعالية التقنية التي من شأنها زيادة إمكانات التصدير في البلاد. وهذا يعني أن كل محاولة للنمو تؤدّي إلى زيادة سريعة في العجز الجاري للبلاد.

من الواضح أن عدم قدرة البلاد على الخروج من الأزمة الاقتصادية يعود أيضًا إلى دور أساسي وهو إضعاف النظام السياسي المؤسّسي القائم على الاستقلالية والجدارة وسلطة القضاء. فمن الواضح أن رأس المال الأجنبي لن يعود بشكل دائم، ولن يغامر المستثمرون المحليون في استثمارات طويلة الأجل، دون ترسيخ سيادة القانون واستقلالية المؤسسات، وخاصة البنك المركزي. إنّ غياب بيئة الثقة يبقي المخاطر مرتفعة ويدفع المستثمرين إلى الانتظار.

كما يُعدّ حجم الاقتصاد غير الرسمي والظلم في النظام الضريبي مشكلة هيكلية أيضًا. إن تحميل العبء الضريبي بشكل كبير لكاهل الأفراد ذوي الأجور وعدم تطبيق إصلاح ضريبي واسع النطاق يعيقان التوزيع الفعّال للموارد ويزيدان من عدم المساواة في الدخل. إنّ السبب في امتداد الأزمة الاقتصادية في تركيا حتى عام 2025 هو النقص المزمن في الثقة الناجم عن الخيارات السياسية الخاطئة وتداخله مع المشاكل الهيكلية المتفاقمة. يؤكد الخبراء أن الاستقرار الدائم لا يتحقّق فقط بالسياسة النقدية، بل يتطلّب تطبيق مبادئ الانضباط المالي، والإصلاحات الهيكلية، واستعادة الاستقلال المؤسّسي، والإدارة الشفافة التي تبني الثقة بشكل متزامن وحازم. وبدون هذا النهج الشامل والمتعدّد الأبعاد، لا يبدو تحقيق أهداف مكافحة التضخم والنمو المستدام ممكناً.

* كاتب تركي

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

مشاركة المقال: