الخميس, 16 أكتوبر 2025 08:58 PM

دمشق: حمى البحث عن الكنوز تهدد المواقع الأثرية وتطمس معالم التاريخ

دمشق: حمى البحث عن الكنوز تهدد المواقع الأثرية وتطمس معالم التاريخ

أحمد كنعان – دمشق

تشهد دمشق وضواحيها نشاطاً متزايداً في عمليات التنقيب غير الشرعي عن الآثار والكنوز المدفونة، والتي تستهدف مواقع تعود للعصور الرومانية والبيزنطية واليهودية والعثمانية. هذه الظاهرة، التي كانت تتم في السابق بسرية تامة، أصبحت شبه علنية.

يرى محللون أن هذا التصاعد يعود إلى عاملين رئيسيين: الانفلات الأمني الناتج عن حلّ أجهزة الأمن والشرطة وتشكيل أجهزة جديدة، بالإضافة إلى انتشار شائعة مفادها أن قانون مكافحة البحث عن الآثار أو تهريبها قد تغير، وأنه بات مسموحاً بالتنقيب مقابل حصول الدولة على “الخُمس” من قيمة اللقى الذهبية أو الآثار المكتشفة.

كنوز مختلفة

يوضح عدد من المنقبين أن الكنوز المدفونة في دمشق وضواحيها تنقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الآثار الرومانية والبيزنطية، والتي عادة ما تكون عبارة عن مدافن تحتوي على ليرات ذهبية بيزنطية مدفونة مع الجثامين؛ والكنوز اليهودية، التي تتضمن ليرات رشادية ومقتنيات ثمينة؛ والطمائر العثمانية التي دفنها العثمانيون أثناء انسحابهم من سوريا، وتكون على شكل صناديق تضم ما يصل إلى ألف ليرة ذهبية عثمانية، وغالباً ما تُكتشف على أعماق سطحية مقارنة بالمدافن البيزنطية أو اليهودية.

يعتمد المنقبون على أجهزة متطورة تعمل بالموجات المغناطيسية لتحديد مواقع المعادن والفراغات الأرضية. وقال أبو وليد، وهو اسم مستعار لمنقب عن الآثار لـ"نورث برس": "أنا أستخدم جهازاً ترددياً يرسل موجات مغناطيسية عبر طبقات الأرض، ولكل معدن تردد خاص. نقوم بتصوير المنطقة بتقنية الأبعاد الثلاثية لتحديد نوع المعدن وقيمته، كما نستطيع معرفة التغيرات الجيولوجية في التربة ولو كانت منذ مئات السنين". وأضاف: "زرت خلال الأشهر الماضية أكثر من مئة موقع تتم فيها عمليات تنقيب. في بعض المواقع وجدنا كنوزاً، وأخرى كانت خاوية".

الجانب الغيبي حاضر أيضاً في قصص التنقيب. إذ يقول أبو ميار، وهو اسم مستعار لمنقب آخر في أحد أحياء دمشق، إن بعض المدافن "مرصودة بالجن" لحمايتها، ويروي قصته: "بدأ العاملون يشعرون بضيق في التنفس والصداع أثناء الحفر، فعرفنا أن المدفن مرصود. لجأنا إلى شيخ معروف بعلاقاته مع الجان، فأرسل بعض أصدقائه للتفاهم مع الجان الراصدين. بعد ذلك اختفت الأعراض واستطعنا إكمال العمل". ويضيف بثقة: "لا بد من التفاهم مع الجان الراصدين لإكمال العملية".

إشارات غريبة

يوضح أبو ميار أن المدفن الذي يعمل عليه حالياً يقع على عمق يتجاوز 18 متراً: "عرفنا بوجود المدفن من خلال بصمتين وجرن بيضوي منقوشين على عامود روماني داخل منزل أحد أقاربي. الجرن يدل على أن المدفن يخص كاهنة معبد سيئة السمعة". ويضيف: "وجدنا خلال الحفر فحمًا ورملًا ناعمًا وعظامًا بشرية، بالإضافة إلى إشارات كوجه منحوت بعين مغمضة وأخرى مفتوحة، وعضو ذكري منحوت من حجر، وكلها تؤكد أننا في مدفن روماني". أما عن احتمالية ألا يجد شيئاً، فيقول بابتسامة: "عادي، هذه ليست المرة الأولى". في حين صرخ أحد العمال المنهكين قائلاً: "سيكون هذا أسوأ موقف في حياتي، نحفر منذ أربعة أشهر وقد تشققت أيدينا".

جرائم قتل

يحذّر أبو ميار من لحظة العثور على الكنز، واصفاً إياها بأنها "لحظة خطيرة": "عندما تجد الذهب يجب أن تتحلى بالحكمة والاتزان، فالكثيرون فقدوا عقولهم في تلك اللحظة". ويروي أبو وليد حادثة مشابهة وقعت في القلمون الغربي: "استعنت بامرأة ذات قدرات روحانية، أرشدتني إلى موقع الحفر في قرية حوش عرب. لكن الخلافات بين الحفارين تطورت لاستخدام الأسلحة النارية وسقط قتلى. علمت لاحقًا أنهم وجدوا الكنز واختلفوا عليه".

يكشف أبو ميار أنه ليس جديداً على عالم التنقيب: "نعم، حاولت مرات كثيرة. مرة واحدة فقط وصلت إلى الكنز، وكان عبارة عن جرة مليئة بالذهب وزنها عشرة كيلوغرامات من الليرات اليهودية". ويضيف: "في تلك المرة تم كشفنا أيام النظام السابق من خلال مراقبة الهواتف رغم أننا كنا نعمل برعاية أحد ضباط الأمن. تمت مصادرة الذهب وسُجنا ثلاث سنوات بعد الحكم بعشر، لكني لم أسلّم نفسي وهربت إلى لبنان، وعدت بعد العفو العام".

القانون لم يتغيّر

القانون السوري لا يزال على حاله، وفق ما تقوله المحامية انتصار غصون لنورث برس: "لم يتم تعديل أي قانون حتى الآن، فإقرار القوانين وإلغاؤها أو تعديلها من مهام مجلس الشعب الذي لم ينتهِ تشكيله بعد، أما اللجان التي شُكلت فهي لجان تُعدّ الدراسات فقط". وأضافت غصون: "ما زال العمل سارياً بالمادة 56 من قانون العقوبات التي تعاقب بالسجن من 15 إلى 25 سنة من يهرّب الآثار أو يشرع بتهريبها، وكذلك المادة 57 التي تعاقب بالسجن من 10 إلى 15 سنة كل من سرق آثارًا أو أجرى تنقيبًا عنها، وتُطبّق العقوبة القصوى إذا ألحق التنقيب ضررًا جسيماً بالأثر".

تحذيرات من خطر طمس الهوية الثقافية

من جانبها، حذّرت الباحثة في الآثار ابتسام المغربي من خطورة هذه الحفريات العشوائية، معتبرة أنها تعكس ضعف الجهات الرسمية المسؤولة. وقالت المغربي لنورث برس: "الحفر العشوائي عن الآثار يعكس ضعف الإدارات البلدية والأثرية في مكافحة هذا التعدي، ويُظهر الدور السلبي لوزارة الثقافة التي يجب أن تكون فاعلة في ردع هذه الانتهاكات". وأضافت بأسى: "ألا يكفي ما تعرّضت له آثارنا من تدمير ممنهج تحت شعار التحديث وبناء الأبراج، حتى تأتي هذه الحفريات العشوائية لتزيد المأساة وتهدم إرثاً يشرح تسلسل الحضارات ومسارات الرسل؟" وتابعت: "هذه الحفريات قد تطمس جزءاً مهماً من الهوية الثقافية. بدل أن يضيفوا أثراً فريداً لرصيد البلاد، يطمسونه تجنباً للمساءلة".

وختمت المغربي بالقول: "لابد من يقظة وزارتي الثقافة والداخلية، والانتباه إلى من يستغلون المرحلة، واتخاذ الإجراءات لتطبيق القوانين التي تحمي آثارنا وتحفظ هويتنا".

بين الحلم بالثراء السريع والخرافة، وبين القانون والواقع، تبقى دمشق اليوم مسرحاً لسباق محموم نحو الماضي، سباقٍ قد يُسفر عن اكتشافات مذهلة أو عن طمس جديد لوجه من وجوه حضارة عمرها آلاف السنين.

تحرير: معاذ الحمد

مشاركة المقال: