الإثنين, 13 أكتوبر 2025 01:55 AM

سوريا: هل يمكن بناء دولة جديدة بعقلية السلطة القديمة؟

سوريا: هل يمكن بناء دولة جديدة بعقلية السلطة القديمة؟

منذ حوالي عقد ونصف، تعيش سوريا أزمة سياسية واجتماعية معقدة تعتبر من بين الأصعب في العصر الحديث. لم تعد الأزمة مجرد صراع عسكري أو خلاف سياسي، بل تحولت إلى صراع حول شكل الدولة وهويتها وآليات الحكم فيها.

في هذا السياق، يستمر خطاب السلطة السورية الحالية في السير عكس المنطق الوطني والسياسي والاجتماعي للبلاد، متمسكًا بأوهام استعادة حكم مركزي مطلق، يقصي جميع القوى والتيارات والمكونات السورية الأخرى، ويقصي معها أي أفق حقيقي لحل دائم وشامل. إن محاولة السلطة إعادة إنتاج نموذج "الدولة المركزية الصلبة"، التي تتحكم من دمشق بمفاصل الحياة في كل قرية ومدينة، لم تعد قابلة للحياة، بل أصبحت فكرة ميتة سريريًا.

هذه المركزية المفرطة كانت جزءًا من أسباب انفجار الأزمة السورية، حين حوّلت الدولة إلى أداة احتكار للسلطة والثروة لمصلحة نخبة ضيقة، وهمّشت الأغلبية الساحقة من السوريين بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والسياسية. اليوم، لا يمكن الحديث عن مستقبل لسوريا دون الاعتراف بأن هذا النموذج المركزي قد انتهى، وأن سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى إلا بالشراكة والتعددية، وبنظام حكم لامركزي حقيقي، يمنح المحافظات صلاحيات واسعة في الإدارة والسياسة والتنمية.

هذه اللامركزية ليست ترفًا إداريًا، بل ضرورة وجودية لبلد متنوع ومعقّد مثل سوريا، تتعايش فيه قوميات وأديان وطوائف وثقافات متعددة، وكل محاولة لفرض سلطة مركزية قسرية لن تنتج إلا مزيدًا من التفكك والمواجهة.

السلطة السورية الحالية لا تزال تتحدث عن "استعادة السيطرة على كل الجغرافيا السورية"، ليس انطلاقًا من مبدأ السيادة الوطنية، بل من رغبة في إعادة إحكام قبضتها على البلاد، وكأن شيئًا لم يكن. هذا الحلم، الذي يبدو أقرب إلى الوهم، يقوم على افتراض أن بإمكان النظام أن يعيد إنتاج حكمه لعقود مقبلة كما كان في السابق، متناسيًا أن المجتمع السوري قد تغيّر، وأن الوعي الشعبي لم يعد يقبل بنظام حكم إقصائي مركزي، يحتكر كل شيء ويصادر كل شيء.

حصر السلاح بيد الدولة، وهو مطلب مشروع لأي دولة حديثة، لا يمكن أن يتحقق قبل التوافق الوطني على شكل الدولة ونظام الحكم والدستور وآليات توزيع السلطة والثروة. لا معنى لسلاح في يد دولة ترفض الاعتراف بمواطنيها كشركاء، وتصرّ على التعامل معهم كخاضعين. السلاح في يد دولة لا تستمد شرعيتها من العقد الاجتماعي، بل من القمع والإقصاء، لا يضمن الأمن، بل يكرّس العنف والتمرد والانفجار.

لهذا، فإن أي حديث عن إعادة بناء الدولة السورية لا يمكن أن يتم إلا من خلال حوار وطني شامل، يفضي إلى عقد اجتماعي جديد، يؤسس لدولة ديمقراطية، تعددية، لامركزية، قائمة على المواطنة المتساوية، وعلى تقاسم السلطة والثروة، لا على احتكارها. إن اللامركزية هنا لا تعني الانفصال أو التقسيم، بل تعني الاعتراف بالواقع السوري المركّب، واحترام خصوصيات المناطق، وتفعيل دور المجتمعات المحلية في اتخاذ القرار ورسم السياسات.

أما العمل بدأب لتكريس سيطرة مشروع "تديين الفضاء العام" وإضفاء طابع ديني على البنية الإدارية والنقابية والسياسية للدولة، فهو مشروع أكثر خطورة، لأنه لا يبني دولة، بل "إمارة إسلاموية" مغلقة، ترفض الآخر، وتقصي التنوع، وتؤسس لنظام شمولي جديد بلبوس ديني، وهذا النموذج أثبت فشله في أكثر من مكان، ولن يكون له أي مستقبل في سوريا التي عرفها أبناؤها تاريخيًا كمجتمع متعدد ومتسامح.

لا يمكن بناء دولة حديثة على أساس ديني أو طائفي أو أيديولوجي إقصائي، الدولة الحديثة تُبنى على القانون وعلى الحقوق وعلى الشراكة، أما تديين الدولة أو تطييفها فهو نقيض كل هذا، لأنه يحوّل الاختلاف إلى تهديد، ويحوّل الدين من رابط روحي وثقافي إلى أداة للهيمنة السياسية، وهذا ما يتناقض جذريًا مع فكرة الدولة الوطنية الجامعة.

في المحصلة، لا مستقبل لسوريا في ظل سلطة ترفض التغيير، وتعيش في الماضي، وتصر على إعادة إنتاج نموذج سلطوي مركزي بائد. المطلوب اليوم هو انتقال حقيقي نحو نظام ديمقراطي تعددي لامركزي، يضمن مشاركة كل السوريين، ويؤسس لسوريا جديدة تتسع للجميع، لا سوريا يحكمها فصيل واحد، أو طائفة واحدة، أو حزب واحد، أو أيديولوجيا واحدة. إن بقاء الحال على ما هو عليه لا يعني إلا مزيدًا من الانهيار والانقسام، بينما يفتح التغيير الحقيقي القائم على الشراكة والعدالة واللامركزية باب الأمل نحو دولة سورية تستحق أن تُبنى من جديد، لا أن تُستعاد كما كانت قبل الانفجار الكبير.

مشاركة المقال: