تكشف "المجلة" تفاصيل المفاوضات السرية التي جرت في مسقط بين نظام الأسد وإدارتي ترمب وبايدن، والتي استمرت حتى أيام قليلة قبل سقوط الأسد.
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرياض برعاية سعودية، كان نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، حيث حقق الشرع ما لم يستطع الأسد تحقيقه خلال ربع قرن.
ويكشف تحقيق "المجلة" استنادًا إلى وثائق ومحاضر اجتماعات، أن الأسد فوّت فرصًا عديدة لرفع مستوى الحوار مع البيت الأبيض بسبب عناده وسوء تقديره، مخيبًا آمال الوسطاء العرب والإقليميين.
المحاولة الأخيرة للحوار جرت قبل أسابيع من هروب الأسد إلى موسكو، وفشلت وساطة بوتين لجمعه مع أردوغان.
القصة الكاملة لفشل وساطة بوتين تستحق أن تروى، لكن هنا سنركز على تفاصيل الوساطات بين الأسد وكل من ترمب وبايدن.
مفاوضات زمن ترمب
في المرحلة الأخيرة من ولاية ترمب الأولى، كانت سوريا محاصرة بقوات أميركية وروسية وتركية، إضافة إلى الميليشيات الإيرانية والغارات الإسرائيلية.
في عام 2017، بدأت إدارة ترمب قنوات تواصل مع النظام السوري لإطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس، رغم أن ترمب فكر في اغتيال الأسد بسبب استخدامه الكيماوي.
بعد ذلك، وجه ترمب رسالة إلى بومبيو لفتح حوار مباشر للإفراج عن الصحافي الأميركي. وذكر اللواء عباس إبراهيم أن السفير روجر كارستنس زار بيروت طالبًا فتح قناة مع علي مملوك لبحث مصير تايس، لكن دمشق وضعت شروطًا تعجيزية.
في أغسطس 2020، تواصل ستيفن غيلين مع السفير بسام صباغ لترتيب لقاء بينهما، لكن الأسد وجه صباغ بالاستماع إليه فقط دون إعطاء أي موقف.
زار روجر كارستنس وكاش باتل دمشق في أغسطس 2020 واجتمعا مع مملوك لبحث مصير تايس، لكن مملوك نفى معرفة أي شيء عنه.
وقال مسؤول غربي إن المسؤولين الأميركيين قالوا إنه في حال تم الحصول على أي معلومات عن تايس، فإن وزير الخارجية مايك بومبيو يمكن أن يأتي إلى دمشق، ويعلن مواقف سياسية مهمة منها.
في أواخر عام 2022، تحدث سلطان عمان مع الأسد حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، لكن الأسد أوقف المحادثات فجأة.
كان ترمب قد أعلن سحب قواته جزئيًا من شمال شرق سوريا، ما فتح الباب لتوسيع نفوذ القوات السورية المعارضة المدعومة من تركيا.
زمن بايدن
في 2021، تجددت وساطة إبراهيم بطلب أميركي لمعرفة مصير تايس، لكن الأسد رفض استقبال الوفد الأميركي.
في 2022، تسارع قطار التطبيع العربي مع دمشق، وكانت إدارة بايدن تريد فتح نوع من التواصل مع النظام لضمانات حول انسحاب قواتها من شمال شرق سوريا والبحث عن المفقودين الأميركيين.
ورغم علم واشنطن بأن النظام لم يقدم معلومات عن مصير تايس، فإن تجارب سابقة بينت أن النظام كان ينكر ثم يتراجع وينخرط في صفقات تبادل.
في عام 2022، أرسل كارستنس معاونه إلى نيويورك ليقابل السفير بسام صباغ، لكن الأسد وجهه بعدم التعاون.
القناة العمانية... وفدا التفاوض
في أواخر عام 2022، تحدث سلطان عمان مع الأسد حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، ووافق الأسد على مضض.
أبلغ سلطان عمان الطرف الأميركي بموافقة السوريين على اللقاء سرا في مسقط، واتفق الجانبان على جدول الأعمال وأعضاء الوفدين.
أرسل الأميركيون وفدًا رفيع المستوى برئاسة بريت ماكغورك، بينما أرسل الأسد وفدًا برئاسة السفير عماد مصطفى، ما أثار استياء الأميركيين والعمانيين.
وحسب وثيقة سورية، فإن المقداد "شعر بالحرج عندما أبلغه الأسد بقراره"، لكن الأسد أصر على تشكيلة الوفد.
عندما أبلغ المقداد الجانب العماني بتشكيلة الوفد، أصيب العمانيون بالدهشة، واعتبر الأميركيون مستوى التمثيل دليلا على عدم الجدية.
أرسل الأميركيون رسالة عبر الجانب العماني بهذا الشأن، لكن الأسد تشبث بقراره.
الأسد لوفد التفاوض: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"
الموقف التفاوضي
بدأ الوفد السوري بالتحضير لجولة المفاوضات الأولى، ووضع قائمة بالأهداف والأدوات التفاوضية، لكن الأسد لم يستدعهم لعرض الملف وأخذ التعليمات.
وقبل يوم من موعد السفر، استدعى الأسد السفير مصطفى منفردا وأمره برفض كل ما سيطلبه الأميركيون، وأكد له أن أوستن تايس ليس لديهم.
في مسقط
اجتمع الوفدان في مسقط، وقدم الأميركيون التعازي للشعب السوري إثر الزلزال، ثم تحدثوا عن أهمية التعاون بشأن أوستن تايس.
لاحظ أحد المشاركين أن العميد ماجد إبراهيم كان يسأل مصطفى بصوت عال عما يقوله الأميركيون، ما أثار دهشة أعضاء الوفد الأميركي.
بعد حوالي الساعة وعشر دقائق من حديث الوفد الأميركي، بدأ مصطفى بالحديث عن العلاقات السورية الأميركية، لكنه لم يتحدث عن موضوع أوستن تايس.
في الواحدة ظهرا، تناول الوفدان الغداء على طاولة مشتركة، وتبادلوا الأحاديث الودية.
مفاجأة غير متوقعة
في الثانية بعد الظهر، فجر الأميركيون مفاجأة غير متوقعة، حيث عرضوا سحب قواتهم من حقلي عمر وكونيكو مقابل التعاون في كشف مصير أوستن تايس.
كان العرض سخيا، لكن مصطفى كان مقيدا بتعليمات صارمة من الأسد بعدم التفاوض حول أي موضوع.
أخرج العميد بريدي خرائط تبين مواقع وجود القوات الأميركية في سوريا، وبدأ يرسم عليها دوائر تبين الأماكن التي يجب عليهم الانسحاب منها.
اتفق الجانبان على العودة إلى رؤسائهم في واشنطن ودمشق، على أن يلتقوا مرة ثانية بعد ثلاثة أسابيع في مسقط.
خلوة ماكغورك-مصطفى
بعد انتهاء الجلسة، طلب ماكغورك من مصطفى أن يختلي معه ليتحدثا على انفراد، وعرض عليه جس نبض نتنياهو بشأن استئناف محادثات السلام الإسرائيلية السورية.
طلب ماكغورك من مصطفى أن يتبادلا أرقام الاتصال المباشر باستخدام تطبيق "واتساب".
بعد عودة الوفد السوري إلى دمشق، غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب، كما انزعج من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى.
أبلغ المقداد مصطفى بأن الأسد قد أمره بمسح رقم ماكغورك من هاتفه وحذره من أي اتصال مباشر معه.
بعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع، أرسل ستيفن غيلين رسالة إلى بسام صباغ يعلمه فيها أن الجانب الأميركي يعتبر أن محادثات مسقط "كانت جيدة جدا ويريد مواصلتها".
مرت الأسابيع الثلاثة المتفق عليها ولم يلتق الجانبان مرة أخرى.
في الفترة التالية تكرر سقوط قذائف الهاون على القوات الأميركية المتمركزة في شمال شرقي سوريا، وأرسل بريت ماكغورك رسالتين إلى مصطفى يحذره فيها من عواقب سقوط تلك القذائف.
تكرر السيناريو السابق مرة أخرى، واقترح الأميركيون إرسال جيك سوليفان مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي على أن يرأس الوفد السوري اللواء علي مملوك.
الاجتماع الثاني
ومن جديد، تحدث سطان عمان إلى الأسد الذي وافق مرة ثانية على أن يذهب الوفد نفسه الذي ذهب في المرة الأولى.
توجه الوفد السوري مرة ثانية إلى مسقط للاجتماع مع الأميركيين يوم 23 مايو/أيار 2023.
تأخر انعقاد الاجتماع الثاني في مسقط 10 ساعات عن موعده المحدد أصلا.
كان ماكغورك هذه المرة أقل كياسة وأكثر مجابهة، وبدأ حديثه بأن قال لمصطفى: "لا داعي لأن نخوض في أي تفاصيل طالما أنتم غير موافقين على مناقشة مسألة أوستن تايس".
دام الاجتماع ساعة وعشر دقائق وانتهى بسرعة دون أي نقاش جدي حول أي موضوع ذي شأن.
الإمارات العربية تدخل
انقطعت جميع قنوات الاتصال بين الولايات المتحدة وسوريا بعد فشل الاجتماع الثاني، وظلت منقطعة حتى يناير/كانون الثاني 2024.
في ذلك الشهر أبلغ الأسد المقداد أن الإمارات طلبت توسطا من الأميركيين، وأنها ألحت كثيرا في رفع مستوى الوفد التفاوضي السوري وإرسال اللواء علي مملوك مع السفير مصطفى وغيرهما من الضباط إلى أبوظبي حيث سيأتي جيك ساليفان مع بريت ماكغورك وجوشوا غيلتزر.
في بداية العام قرر الأسد فجأة عزل مملوك من منصبه رئيسا لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشارا أمنيا بالقصر.
في سبتمبر/أيلول 2024، تدخلت عمان ثانية لاستئناف الحوار بين واشنطن ودمشق.
طلب الأسد من المقداد أن يرفع إليه اقتراحا بتشكيل وفد على مستوى أعلى، ووافق على أن يتشكل الوفد من نائبه الجديد بسام صباغ وعضوية مصطفى.
في 23 سبتمبر شكل الأسد وزارة جديدة عين فيها صباغ وزيرا للخارجية.
في 26 نوفمبر/تشرين الثاني وجه صباغ، وزير الخارجية الجديد، تعليماته إلى مندوب سوريا في الأمم المتحدة السفير قصي الضحاك ليلتقي مع ستيفن غيلين فيتفق معه على مكان وتاريخ الاجتماع المقبل.
في 2 ديسمبر، لم يأت ستيفن غيلين للاجتماع مع السفير الضحاك، وبذلك انتهى الفصل الأخير من قصة الحوار الأميركي مع نظام الأسد.
وفي 8 ديسمبر دخلت "إدارة العمليات" بقيادة "هيئة تحرير الشام" دمشق العاصمة، وفي 14 مايو/أيار التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في الرياض، معلنا رفع العقوبات عن سوريا واستعادة العلاقات الثنائية.