شهدت سوريا في تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفينيات ازدهاراً نسبياً في الاستثمارات العربية، لا سيما من دول الخليج، وعلى رأسها مجموعة الخرافي الكويتية. لكن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، إذ انقلب النظام السوري السابق على هذه الشراكة تدريجياً، متجهاً نحو محور إيران وروسيا، ما أسفر عن نتائج كارثية سياسياً واقتصادياً، وانتهى بعزلة إقليمية خانقة. واليوم، وبين ركام الحرب والحصار، تطرح سوريا نفسها من جديد كلاعب استثماري وجيوسياسي، مع رؤية منفتحة على العمق العربي والدولي.
الخرافي والاستثمارات الخليجية في سوريا
دخل رجل الأعمال الكويتي الراحل ناصر الخرافي السوق السورية عبر مجموعة ضخمة من المشاريع في قطاعات السياحة والصناعة والأسواق الحرة، أهمها:
- مشروع كيوان السياحي بدمشق (217 مليون دولار): من أضخم المشاريع الفندقية في العاصمة، ويضم فندقاً خمس نجوم بإدارة إنتركونتيننتال، مركز مؤتمرات ومرافق تجارية وترفيهية.
- تطوير فندق بلودان الكبير، شيراتون حلب، وفندق الفورسيزنز.
توضيح عن العلاقة بين مجموعة الخرافي والفورسيزنز: الوليد بن طلال، عبر شركته “المملكة القابضة”، هو المستثمر الأساسي في علامة فورسيزنز العالمية، وليس بالضرورة المالك المباشر لكل فندق يحمل الاسم. أما فندق فورسيزنز دمشق، فقد تم إنشاؤه ضمن مشروع مشترك بين: وزارة السياحة السورية (من خلال المؤسسة العامة للسياحة) ومجموعة الخرافي الكويتية (الجهة التي موّلت الجزء الأكبر من البناء).وشركة فورسيزنز العالمية (المشغّل/المدير الفندقي).
مجموعة الخرافي تولّت تطوير المشروع العقاري وتمويله، وكانت الشريك الاستثماري الرئيسي في فندق فورسيزنز دمشق. وتم التعاقد مع فورسيزنز العالمية لتشغيل الفندق وفق عقد إدارة، وهو ما يفسر وجود اسم “فورسيزنز” رغم أن الملكية لم تكن للأمير الوليد مباشرة.
لاحقاً، وبعد اندلاع الحرب وتورّط النظام في العقوبات، انسحبت “فورسيزنز” من الفندق رسمياً في 2019، وتم تغيير اسم الفندق إلى “فندق الفورسيزنز دمشق بإدارة وطنية”، وأصبح فعلياً تحت سيطرة النظام.
- استثمارات صناعية: مصانع للزجاج والبلاستيك والإسمنت كانت ضمن خطط دعم البنية الصناعية المحلية.
- شراكة في الأسواق الحرة بالمطارات والمعابر الحدودية، بالشراكة مع المؤسسة العامة للمناطق الحرة.
لكن هذه المشاريع واجهت بيئة استثمارية غير مستقرة، خاصة بعد أن بدأ رامي مخلوف، رجل الأعمال المرتبط عضوياً بالنظام، بالتمدد على حساب الشركاء الخليجيين، مستخدماً أدوات السلطة الأمنية والقانونية لإقصائهم، والاستحواذ على قطاعات حيوية، وفي مقدمتها الأسواق الحرة، التي تحوّلت إلى منصات تهريب وتمويل موازٍ.
من الشراكة إلى الاستحواذ وقطع الجسور مع الخليج
في الوقت الذي كانت فيه الدول الخليجية تُرسل مستثمريها وشركاتها إلى سوريا، كان النظام السوري السابق يسير في خيار استراتيجي مناهض لمحوره العربي، مُفضِّلاً التحالف مع إيران وروسيا على حساب التوازن الإقليمي وقد انعكس هذا التوجه في:( الخطاب السياسي العدائي تجاه الخليج ومجلس التعاون وتعميق التعاون الاقتصادي مع إيران على حساب الاستثمارات الخليجية، عبر صفقات تفضيلية وبنوك مشتركة وشركات احتكارية وارتهان سياسي واقتصادي متزايد لروسيا بعد 2011، حيث فُتحت البلاد أمام الاستثمارات الروسية بشروط مجحفة، خاصة في مجالات الطاقة والمرافئ)
قضية الأسواق الحرة: من الخرافي إلى دشتي
بعد السيطرة على الأسواق الحرة، أعلن رامي مخلوف في 2011 بيعاً صورياً لأسهمه فيها لمستثمرين كويتيين، كمحاولة للالتفاف على العقوبات الدولية. إلا أن فسخ العقود في 2020 شكّل إعلاناً صريحاً لانسحاب مجموعة الخرافي وبقية الشركاء الخليجيين. ولاحقاً، جرى نقل عقود الأسواق الحرة لشقيقه إيهاب مخلوف، عبر شركة جديدة بالشراكة مع عبد الحميد دشتي، السياسي الكويتي المقرّب من النظامين السوري والإيراني.
وقد اعتُبرت هذه الشراكة محاولة لإضفاء شرعية خارجية على استثمار احتكاري، دون أي تغيير حقيقي في بنية السيطرة أو آلية الاستغلال. وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه السياسة إلى خروج المستثمرين الخليجيين، ليس فقط لأسباب أمنية، بل بسبب فقدان الثقة بإرادة النظام في حماية رؤوس الأموال، وتفضيله الشركاء الأيديولوجيين على الشركاء الاقتصاديين.
الانعكاسات الاقتصادية والسياسية
هذه القطيعة ادت إلى تراجع حجم الاستثمارات العربية في سوريا بنحو 80% خلال العقد الماضي وانهيار القطاعات السياحية والصناعية التي كان الخليج شريكاً رئيسياً في بنائها. وعزلة سياسية إقليمية، جعلت سوريا خارج الإجماع العربي لسنوات وتآكل الاحتياطي النقدي وتضخم الفساد والمحسوبيات.
سوريا تعيد التموضع وتطرح رؤى جديدة
مع تغير المشهد السياسي بعد 2023، وسقوط النظام البائد في نهاية 2024، بدأت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع في إعادة صياغة العلاقة مع الخليج والعالم العربي، في محاولة لاستعادة المكانة الجيوسياسية والاقتصادية لسوريا خاصة بعد اعلان رفع العقوبات ، عبر خطوات جادة من خلال :
- عودة العلاقات الدبلوماسية مع الدول الخليجية، بما فيها السعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين.
- إطلاق رؤية استثمارية جديدة تقوم على الشفافية، حماية رأس المال، وتقديم تسهيلات غير مسبوقة في مجالات السياحة، الطاقة، النقل، الزراعة، والتكنولوجيا.
- تشجيع المستثمرين ا لسوريين والعرب ولا سيما دول الخليج على العودة، ويتجلى ذلك في زيارة وفد كويتي رفيع بقيادة بدر ناصر الخرافي إلى دمشق لبحث فرص استثمارية جديدة.
- محاولة إنهاء عقلية الاحتكار وإقصاء الفاعلين الاقتصاديين غير التابعين للسلطة.
هل تستعيد سوريا ثقة المستثمرين؟
إن قصة مجموعة الخرافي في سوريا ليست سوى نموذج لما ضاع بسبب خيارات النظام السابق، لكنها أيضاً تذكير بما يمكن تحقيقه إذا عادت البلاد إلى البيئة العربية الاستثمارية الطبيعية. اليوم، ومع توجهات جديدة تنفتح على الخليج والعالم، تملك سوريا اليوم فرصة حقيقية للعودة إلى موقعها الجيوسياسي اللائق، كجسر استراتيجي بين آسيا وأوروبا، وكمركز استثمار إقليمي واعد.
(موقع اخبار سوريا الوطن الالكتروني-1)