في زوايا البيوت السورية، حين تعبق رائحة القهوة العربية، تتوارث النساء طقسًا تقليديًا يختلط فيه الواقع بالخيال، والعفوية باليقين. ولم تكن القهوة يومًا مجرد مشروب عادي، بل كانت مفتاحًا لحكايات، ولأسرار لا تُروى إلا داخل قاع فنجان مقلوب. هذه العادة، التي انتقلت من الجدات إلى الأمهات ومنهن إلى البنات، تحمل في طياتها طقسًا شعبيًا فيه شيء من الترفيه وكثير من الأمل، وأحيانًا من الحيرة والتساؤل. ورغم التطورات العلمية والانفتاح على العالم، لا تزال جلسات "التبصير" شائعة بين بعض النساء السوريات، حتى أصبحت جزءًا من الهوية الشعبية والذاكرة المجتمعية.
تسلية مغلفة بالفضول
أنطوانيت فرهود (30 عامًا) تقيم في باب شرقي بدمشق، روت لعنب بلدي، أن نساء العائلة يجتمعن كل يوم جمعة، بعد الغداء، ويشربن القهوة سادة، ثم تبدأ جلسة "التبصير". "تلتقط خالتي أم رامي الفنجان، تتأمله، وتبدأ بسرد القصص: (في طريق طويل، وشخص يفكر بكِ، وفي عيون حاسدة، لكن في فرج قريب)"، تصف أنطوانيت ما يدور في فنجانها. وتتابع أنطوانيت حديثها مبتسمة، "نعلم جميعًا أن الأمر لا يتعدى التسلية، لكننا ننتظر هذه اللحظات بشغف، نضحك، نأمل، وأحيانًا نصدق". وتتفاجأ ريما خليل، طالبة جامعية في دمشق، بدقة ما يُقال لها في فنجانها، رغم عدم معرفة "المبصرة" بتفاصيل حياتها. وترى ريما في جلسات "تبصير الفنجان" أنها لحظة ممتعة وتكسر روتين الجلسة، رغم يقينها أن "التبصير" ليس علمًا.
مهنة لبعض النساء
في المقابل، اتخذت بعض النساء السوريات من عادة "تبصير الفنجان" مصدر دخل لهن. تتحدث فاطمة يونس (55 عامًا)، تقيم في منطقة الكباس بدمشق، أنها بدأت بقراءة الفنجان لصديقاتها منذ أن كان عمرها 20 عامًا. "بدأت القصة معي من باب التسلية، لكن صديقاتي كنّ يقلن إنني أرى أشياء دقيقة لا يعرفها إلا هن، ومع الوقت، بدأت أقرأ للغريبات، ثم أصبحت أتقاضى أجرًا بسيطًا"، تقول فاطمة.
مساحة خاصة
"أشعر أنني أمنح النساء أملًا، أو على الأقل أصغي لهن، النساء يحتجن إلى من يسمعهن، والفنجان هو الجسر"، بحسب فاطمة. ترى سهى حليمة، متخصصة في علم الاجتماع، أن "التبصير بالفنجان" يندرج ضمن الثقافة الشعبية التي تمزج بين الرغبة في فهم المجهول وحاجة النساء إلى مساحة خاصة بهن يتبادلن فيها القصص والمشاعر. وسواء اتُّخذت العادة كتسلية أو كمصدر رزق، فهي تعبر عن "ذكاء اجتماعي" في استخدام المتاح لصنع روابط ومكانة ودخل في بعض الأحيان، بحسب رأي سهى.