زكية الديراني: «نشهد الله أنك أديت الأمانة». عبارة انتشرت على نطاق واسع في الحسابات التي نعت مراسل قناة «الجزيرة» في غزة، الصحافي الشهيد أنس الشريف، الذي اغتاله العدو الإسرائيلي مع رفيقه محمد قريقع ومجموعة من زملائه، خلال استهداف خيمة للصحافيين بالقرب من «مجمع الشفاء الطبي».
لم يكن أنس الشريف مجرد صحافي ينقل صورة التجويع من غزة، بل كان صوت القطاع النازف الذي حمل أمانة الكلمة بدمه، ودفع حياته ثمناً لها.
على الرغم من قصر مسيرته الصحافية، إلا أن الشريف شكّل حالة استثنائية على شاشة «الجزيرة» وفي الفضاء الافتراضي. حتى أن المتحدث الإعلامي باسم العدو، أفيخاي أدرعي، هدد الشريف بالقتل مراراً، بعد أن وُضع اسمه على قائمة الصحافيين الذين أرعبوه بجرأته وصوته.
عاش أنس الشريف الإبادة منذ بدايتها، وشاهد المجازر والتهجير والتجويع. وبالمقارنة بين صوره القديمة والأخيرة، بدا هزيلاً ومتعباً، وكأنه كبر عشرات السنين في أشهر قليلة.
كان وقع اغتياله مؤلماً، وأبكى محبيه، مرة عند استشهاده ومرة أخرى عند الكشف عن وصيته التي طالب فيها بعدم ترك غزة. احتضن الشريف تراب غزة، وارتاح جسدياً من عناء أشهر طويلة عاشها بين معاناته الصحية جراء التجويع وأصوات ومشاهد المجازر التي عايشها.
«لن أخرج من غزة إلا إلى الجنة» (أنس الشريف).
عندما انهار أمام الكاميرا أثناء نقل صورة التجويع، تعالت الأصوات من حوله «استمر يا صوت غزة». كان الشهيد يتمنى أن ينقل للغزيين خبراً مفرحاً.
بعد الإعلان عن الهدنة مع العدو قبل أشهر، خلع الشريف خوذته مباشرة على الهواء على شاشة «الجزيرة»، ولكن فرحته لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما استأنف العدو مجازره بحق أهل القطاع.
هكذا، عمل العدو الإسرائيلي على تصفية صحافيي غزة واحداً تلو الآخر، ليكون أنس الشريف آخر الصحافيين الشرفاء. في محادثة على الواتساب، نصحه أحد الأصدقاء بالذهاب إلى قطر للحفاظ على حياته، فأجاب الشريف: «لن أخرج من غزة إلا إلى الجنة». بالنسبة إلى أنس، كانت نهاية عمله الصحافي واضحة: إما شهيداً أو شاهداً ينقل وقع المجازر.
ورغم أن العدو الإسرائيلي اغتال أكثر من مئتي صحافي ومصور منذ بداية حرب الإبادة، في محاولة منه لإطفاء الكاميرا على مجازره، بات السؤال مع غياب الشريف: هل ستغيب صورة غزة عن العالم، خصوصاً أن اغتياله تزامن مع إعلان العدو عن اجتياح القطاع؟ هل قام بالاغتيال كي يعتّم صور المجازر التي سينفذها في المستقبل؟ هل لك أن تتخيل غزة من دون أنس الشريف؟
لقد أفرغت غزة من مصوريها وصحافييها، وحتى أن تغطية القنوات العربية تراجعت بشكل لافت، لتتماشى مع أهداف العدو بقتل الحجر والبشر في غزة.
استلم الشريف دفة نقل صورة غزة من زميله المدير السابق لـ«الجزيرة» وائل الدحدوح الذي تعرض لمحاولة اغتيال قبل عام ونصف تقريباً، واستشهد على إثرها زميله المصوّر سامر أبو دقة. يومها، تعرض الدحدوح لإصابة في يده استدعت نقله إلى قطر للعلاج.
خرج الشريف من تحت ركام غزة، معلناً أنه سيكمل الطريق مهما كان صعباً. وُضع قبل أكثر من عام على قائمة «الإرهاب» التي نشرها العدو وتضمّنت ستة صحافيين بتهم الانتماء إلى حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» في محاولة لتبرير استهدافه.
مع ذلك، مشى الشريف في جنازة أكثر من مئتي صحافي قتلوا على يد العدو، من بينهم مقرّبون إليه مثل إسماعيل الغول، وحمزة الدحدوح. كما وقف إلى جانب زميله المصوّر الجريح فادي الوحيدي وكشف للعالم حقيقة الهمجية الإسرائيلية. على مدار أكثر من ستمئة يوم، نقل أنس الشريف معاناة الغزيين في رسائل يومية، كاشفاً فيها عن جرائم العدو.
هكذا، مع اغتيال الشريف، يريد العدو غزة من دون صوت أو صورة. ستكتفي قناة «الجزيرة» بإصدار بيانات استنكار لاغتياله وزملائه، وتستقبل الصهاينة على هوائها لتبرير جرائمهم، بينما ستطالب النقابات الصحافية العالم بوضع حد لجرائم العدو ضد الصحافيين وسط صمت عالمي وعربي مخزٍ، وصفه أنس يوماً «بصمتكم وتخاذلكم، أنتم خصومنا أمام الله».
أخبار سوريا الوطن