الخميس, 21 أغسطس 2025 10:07 PM

الجامع الأعلى الكبير بحماة: تحفة معمارية تحكي قصة ثلاث حضارات

الجامع الأعلى الكبير بحماة: تحفة معمارية تحكي قصة ثلاث حضارات

حماة - سانا: يتربع الجامع الأعلى الكبير في قلب حي المدينة غرب قلعة حماة، شامخاً كواحد من أقدم المساجد في العالم الإسلامي. لا يقتصر دوره على كونه مكاناً للعبادة، بل هو سجل معماري حي يوثق مرور ثلاث حضارات كبرى على مدى أكثر من 1400 عام.

تأسس الجامع عام 17 هـ (636م) على يد الصحابي الجليل أبي عبيدة بن الجراح، فوق موقع كان في الأصل معبداً رومانياً يعود إلى القرن الثالث الميلادي، ثم تحول إلى كنيسة بيزنطية كما تدل النقوش المؤرخة بعام 595 ميلادي. لاحقاً، اكتسب الجامع طابع العمارة الإسلامية ليصبح أحد أبرز المعالم الدينية والتاريخية في المدينة.

يتميز الجامع بموقع استراتيجي في حي المدينة، حيث يشكل مع حي الباشورة نواة السكن في العصر الأيوبي، وهما يحيطان بالقلعة ونهر العاصي. هذا الموقع، كما يشير الباحث التاريخي وعضو الجمعية العلمية التاريخية غالب الصواف، جعل من الجامع مركزاً دينياً وعلمياً، ومعلماً حضارياً متجذراً في ذاكرة المدينة، وركيزة أساسية في تطور حماة العمراني والثقافي.

يتوسط صحن الجامع "قبة الخزنة" التي أمر ببنائها الخليفة عمر بن الخطاب لحفظ أموال المسلمين، وتقوم على أعمدة كورنثية تعكس التداخل الفني بين الحضارات القديمة. تبرز المآذن بتصميمين مختلفين: إحداهما مربعة الشكل والأخرى مثمنة، فيما تزين جدرانه كتابات كوفية تعتبر من أرقى نماذج الخط العربي في العمارة الإسلامية. يضم الجامع منبر زين الدين كتبغا المصنوع من خشب الجوز المطعّم بالصدف والعاج، إلى جانب ضريحي الملكين الأيوبيين المنصور والمظفر، اللذين جعلا من حماة مركزاً للعلم والأدب في القرن الثالث عشر الميلادي.

رغم الأضرار التي لحقت بالجامع خلال عدوان النظام البائد على المدينة عام 1982، حيث تهدّم المنبر وتضررت أجزاء من البناء، فقد أُعيد ترميمه بأيدي الفنان النجار نعسان عكعك والخطاط طارق الشامي، اللذين أعادا نجارة المنبر وضريحي الملكين بروح الماضي وتقنياته، مع الحفاظ على شكل المنبر الأصلي وإعادة الآيات القرآنية بنفس الخط والزخرفة، ما أعاد للجامع رونقه التاريخي والمعماري.

على مر العصور، ظل الجامع الأعلى الكبير منارة للعلم والدين، محتضناً حلقات الدروس والخطابة، وشاهداً على تطور العمارة الإسلامية بامتزاج الطراز الأموي والمملوكي والأيوبي. واليوم، يُعد هذا الصرح وجهة بارزة للسياح والباحثين والمهتمين بالتراث، وذاكرة حية تجسد تاريخ حماة وهويتها الحضارية.

يقف الجامع الأعلى الكبير في حماة كتحفة معمارية شاهدة على تلاقي الحضارات عبر أكثر من أربعة عشر قرناً، من معبد روماني إلى كنيسة بيزنطية، ثم إلى منارة إسلامية، تتجسد في جدرانه طبقات التاريخ وروح المدينة. في قلب حي المدينة، يروي الجامع قصة حماة، حيث تتعانق العمارة والدين والعلم في مشهد لا يُنسى.

مشاركة المقال: