الإثنين, 15 سبتمبر 2025 10:36 PM

السلطة السورية الجديدة: كيف تصنع فقاعة الوهم لتزييف الوعي؟

السلطة السورية الجديدة: كيف تصنع فقاعة الوهم لتزييف الوعي؟

في عالم اليوم، حيث الصورة العابرة تطغى على الكلمة الراسخة، وحيث تقاس الشرعية بعدد الإعجابات والتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي بدلًا من تحقيق العدالة والتنمية والكرامة، تلجأ السلطات المستبدة إلى أساليب جديدة لضمان بقائها وتثبيت سلطتها. حتى أنها حولت التطبيل إلى وظيفة رسمية، تعقد لأجلها المؤتمرات ويستعان فيها بـ "المؤثرين".

السلطة السورية الجديدة، بدلًا من البحث عن قواسم وطنية مشتركة تعزز التحول الديمقراطي الذي هو هدف الثورة والتغيير، اختارت بناء فقاعة وهمية. تعتمد هذه الفقاعة على أدوات الإعلام الرقمي، والجيش الإلكتروني، وجوقة منظمة من "المؤثرين" المأجورين، بهدف تزييف وعي الجمهور وإيهام الداخل والخارج بقبول شعبي واسع، على الرغم من أن الواقع يشير إلى عكس ذلك.

هذه الفقاعة ليست مجرد دعاية مؤقتة، بل مشروع متكامل لإعادة تشكيل الإدراك الجمعي واحتكار الرواية، بحيث يصبح أي انتقاد هامشيًا، وأي رفض استثناءً، وأي معارضة "خيانة" أو "تآمر" أو "عمالة". إنها تسعى لإعادة هندسة الوعي الجمعي عبر قنوات حديثة تبدو عصرية ومنتشرة، لكنها في جوهرها امتداد تقني لأساليب البروباغندا "الغوبلزية" التي استخدمتها الأنظمة السلطوية لعقود.

هكذا فعل هتلر وموسوليني وستالين، وهكذا يفعل طغاة العصر الحديث. تعتمد السلطة السورية الجديدة على ثلاثة أسس لصناعة الوهم: أولها، جيش إلكتروني وفرق منظمة من الحسابات الوهمية أو شبه الوهمية، مهمتها إغراق الفضاء الرقمي بمحتوى متكرر يضخم الإنجازات المزعومة ويهاجم أو يهمش أي خطاب ناقد. هذه الحسابات تعمل على مدار الساعة وتعيد إنتاج الرسائل الرسمية بأشكال مختلفة، لتبدو وكأنها صادرة عن جمهور واسع، بينما هي مجرد صدى لمصدر واحد.

ثانيها، جوقة "المؤثرين" الذين يتم تصنيعهم عمدًا أو استقطابهم بالترغيب أو الترهيب. يقدم هؤلاء أنفسهم كمراقبين محايدين أو كشباب قريبين من الناس، لكنهم في الواقع مكلفون بتلميع صورة السلطة وسلوكها وقراراتها مهما فعلت. يحصل هؤلاء على مساحات أوسع ودعم تقني وإعلاني وإعلامي لكي يطغى حضورهم على أي صوت مستقل أو ناقد.

ثالثها، آلية التكرار والانتشار. الرسالة الدعائية الواحدة لا تقال مرة واحدة فقط، بل تكرر عشرات المرات عبر قنوات مختلفة: في صفحة إخبارية، وفي حساب شخصي، وفي فيديو قصير، أو حتى في تعليق على منشور. التكرار المستمر يحول الكذبة إلى "حقيقة افتراضية" يسهل على العقول المتعبة قبولها.

الهدف من هذه الفقاعة هو إنتاج صورة زائفة لشعبية السلطة، وترسيخ الاعتقاد بأن الشعب يقف خلف القيادة الجديدة، وأن أي معارضة هي مجرد أصوات معزولة أو ممولة من الخارج. هذه الصورة تخاطب الداخل لتثبيط العزائم وإشاعة الإحباط، وتخاطب الخارج لإقناعه بأن "الاستقرار" قد عاد وأنه لا جدوى من دعم معارضة لا قاعدة لها. لكن الهدف الأعمق هو التحكم بالوعي نفسه، حين يعتاد الفرد على تدفق محتوى متشابه من قنوات متعددة، مليء بالمعلومات الناقصة أو المضللة والأخبار المجتزأة عن سياقها، مع الحرص على إبراز جزء من المشهد وتضخيم حدث اقتصادي صغير ليقدم كإنجاز وطني، في تجاهل للشفافية، مما يؤسس لمنظومة فساد جديدة.

كما يتم تجاهل حقائق الفقر والجوع والبطالة والانهيار المعيشي وانعدام الخدمات، مما يفقد المواطن قدرته على التمييز بين الحقيقة والزيف، ويصبح أكثر قابلية للاستسلام للأقوى صوتًا لا للأصدق مضمونًا. هنا تكمن خطورة الوهم، فهو لا يخدع الآخر فقط، بل يزيف الوعي ويغير طبيعة إدراكه لما يحدث حوله وفي العالم، مما يعيد إنتاج تربة الاستبداد ويهيئ لظهور نظام طغيان جديد.

لكن الفقاعة تبقى هشة، وستنفجر يومًا ما، فالواقع المعيشي لا يمكن تزويره طويلًا، والجوع لا يختفي بمنشور على "فيسبوك"، والفقر المائي وانقطاع الكهرباء لا يعالَج بمقطع دعائي. ستأتي اللحظة التي ستنفجر فيها فقاعة الوهم ويتبدى التناقض بين الخطاب والواقع العاري، فالتاريخ يعلمنا أن الوعي المغيب سرعان ما يستيقظ حين يصطدم بالمعاناة المحسوسة. لكن الخطر يكمن في الوقت الضائع بين بناء الوهم وانهياره، حيث تهدر الطاقات وتتعطل إمكانات التغيير.

فقاعة الوهم التي تبنيها السلطة السورية الجديدة ليست مجرد استراتيجية إعلامية، بل هي مشروع للسيطرة على الوعي الجمعي وترويضه. جيش إلكتروني، وجوقة مطبلين و"مؤثرين"، ورسائل متكررة، وأعداء مصطنعون، وعواطف مبتذلة ومستهلكة، كلها أدوات تسخر لصناعة شعبية زائفة تتوسلها السلطة كغطاء لاستمرارها. لكن الحقائق لا تحجب للأبد، فالجوع والظلم وغياب الأمل كفيلة بتمزيق الفقاعة. التاريخ مليء بالشواهد على أن وعي الشعوب مهما تعرض للتزييف يستعيد نفسه يومًا ما، عندها تنكشف الخديعة وتتبدى الحقائق ويسقط الوهم، لكن السؤال هو كم من الوقت سيهدر، وكم من الدماء ستسفك، قبل أن يحدث ذلك؟!

مشاركة المقال: