في لقاء موسع مع صحيفة "المجلة"، قدم وزير الخارجية والمغتربين السوري، أسعد الشيباني، استعراضاً مفصلاً للظروف التي أحاطت بمعركة "ردع العدوان"، والاتصالات والمفاوضات التي جرت مع الجانب الروسي، بالإضافة إلى رؤيته لمستقبل العلاقات بين دمشق وموسكو.
أوضح الشيباني أن فهم التحول الدبلوماسي السوري لا ينفصل عن اللحظة الحاسمة في 7 ديسمبر/كانون الأول 2024، عندما كان الرئيس أحمد الشرع و"هيئة تحرير الشام" مصنفين على "القائمة السوداء"، ولم يكن هناك اعتراف بشرعية القيادة الجديدة من أي طرف، سواء عربي أو غربي أو حتى من الأمم المتحدة.
وأكد أن المقارنة بين تلك اللحظة ونهاية عام 2025، حيث التقى الشرع قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، تكشف عن "نقلة دبلوماسية هائلة" تحققت خلال سنة واحدة فقط، لكنها لم تكن وليدة المصادفة أو "معجزة سياسية"، بل نتيجة رؤية مبكرة وعمل تراكمي.
وأضاف الشيباني أنه يعمل شخصياً على ملف العلاقات الخارجية منذ عام 2018، وأن رؤية الدولة الجديدة كانت حاضرة في أذهان فريقه مبكراً: كيف يجب أن تكون سوريا في المستقبل، وما هي "المفاتيح" التي تفتح أبواب الإقليم والعالم أمام مشروع وطني جديد.
ورفض اختزال ما جرى في صورة صعود مفاجئ أو نجاح غير مفسر، مذكراً بأن البنية الذهنية والسياسية لهذا التحول وضعت قبل "التحرير" بسنوات، وأن القيادة كانت تعلن في دوائرها الضيقة أن أي مشروع حقيقي للدولة لا يمكن أن يقوم دون شبكة علاقات خارجية متينة.
وجدد وزير الخارجية تأكيده أن الدبلوماسية السورية الجديدة تتعامل مع العالم "بشكل واقعي"، وأنها استفادت بوعي من أخطاء تجارب دول أخرى، وحددت خطة واضحة للتحرك الخارجي. ونبه إلى أن أي مشروع يقود دولة من دون أن يبني علاقات خارجية فاعلة يتحول بالضرورة إلى "جزيرة معزولة"، في عالم تحكمه شبكات المصالح المعقدة.
وأوضح أن البيئة الدولية نفسها تنتج "مسلمات معلبة" عن سوريا والمنطقة، وأن من يقبل أن يبقى أسيراً لهذه الصور النمطية مصيره الفشل "بشكل كبير جداً".
وأشار الشيباني إلى أن التغيير الذي وقع في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 كان بحد ذاته "حدثاً صادماً"، ليس للشعب السوري وحده، بل للدول المعنية بالملف السوري أيضاً. وأكد أن هذا التغيير، بحجمه وسرعته وطبيعته، لفت أنظار عواصم عديدة إلى أن "شيئاً غير عادي يحدث في سوريا"، وأن هذا الاهتمام فتح أمام دمشق الجديدة نافذة للتحرك السريع باتجاه الخارج، سواء عبر استقبال وفود، أو عبر الانخراط المباشر مع صناع القرار في المنطقة والعالم.
وأوضح أن الانطلاقة الأولى باتجاه الخارج رافقتها حالة من التوجس الطبيعي: أسئلة من نوع "من هؤلاء؟ من أين جاءوا؟ وإلى أي مشروع ينتمون؟". لكنه شدد على أن هذا التوجس بدأ يتراجع منذ الجلسات الأولى مع المسؤولين الأجانب، عندما لمس هؤلاء خطاباً وطنياً واضحاً، منفتحاً على العالم، وصادقاً في الوقت نفسه.
وأكد أن كثيرين انتقلوا فجأة من سماع خطاب النظام السابق أو أسماء مثل "أبو حيدر" وبشار، إلى الاستماع لرؤية وطنية تتحدث عن سوريا دولةً وشعباً، لا عن سلطة مغلقة على ذاتها.
وجدد الشيباني التأكيد على أن ما يطرحه اليوم هو "دبلوماسية صادقة"، لا تقوم على المراوغة والكذب، ولا على المزايدات الثورية أو الخطابات الانفعالية. وأعلن بوضوح أن المصلحة الوطنية هي البوصلة العليا: بلد مدمر يحتاج إلى علاقات جيدة مع جميع الدول، من أجل أن يساندوه في مرحلة إعادة البناء، وفق خطوات محددة وواضحة "1، 2، 3، 4".
ومع مرور الأشهر الأولى بعد التحرير، بدأت الدول ترى مصداقية حقيقية في أداء القيادة الجديدة: ما يتحدث عنه الشيباني يتحقق، وما يعلن في الغرف المغلقة يترجم في القرارات والمواقف.
ونوه وزير الخارجية بأن الحكم الجديد واجه، خلال هذه السنة، سلسلة من التحديات الثقيلة: تنظيم "داعش"، فلول النظام السابق، المطبات السياسية الداخلية، وآليات التعامل مع منظومة العقوبات. وأكد أن كل ذلك أدارته القيادة السورية برباطة جأش، وبعمل فرق كبيرة من الخارجية ومن مؤسسات الدولة، في ملفات معقدة لا يظهر للرأي العام منها إلا "اللقطة الأخيرة"، بينما تبقى كواليس التفاوض وشد الأعصاب بعيدة عن الأضواء.
وأكد الشيباني أن الشركاء الخارجيين لاحظوا أيضاً غياب "المراهقة السياسية" عن سلوك القيادة الجديدة؛ فلم يروا أمامهم أشخاصاً طارئين على العمل العام، ولا عقليات لا تدرك حجم الموقع الذي وصلت إليه، بل وجدوا "كلام رجال، والتزاماً، ورؤية واضحة". كما شدد، عزز ثقة السوريين بأنفسهم من جهة، ورسخ لدى الأطراف الدولية قناعة بأن هذا الطرف الجديد "موثوق وقابل للرهان عليه".
وعن أولى المحطات الخارجية، أوضح الشيباني أن السعودية كانت الوجهة الأولى، ثم جاءت المشاركة في أعمال الأمم المتحدة ورفع العلم السوري هناك، والمشاركة في المؤتمرات الدولية حتى عندما لم تكن دمشق جاهزة بنسبة مئة في المئة.
ورفض الشيباني منطق "الانتقاء المتكبر" للعلاقات، مؤكداً: سوريا لا تزهد بأي علاقة أو طرف أو فعالية يمكن أن تخدم مصلحتها الوطنية. وأشار إلى أن هذا الحضور المتواصل حول صورة سوريا في الأوساط الدولية من "شكل غريب أو مستهجن" إلى طرف يمكن التعرف عليه والتفاعل معه، ثم لاحقاً البناء معه وعليه.
وقال الشيباني إن رؤية القيادة لما سيحدث في 2025 لم تكن مجرد حلم بعيد؛ بل كانت تصوراً سياسياً يعمل عليه منذ ما قبل إطلاق عملية "ردع العدوان" في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
وذكر بأنه قبل تلك العملية كان يعتقد، ومعه فريق العمل، أن وصول أحمد الشرع إلى موقع الرئاسة وجلوسه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب مسار ممكن، لكن "الأحلام وحدها لا تكفي"، لذلك تمت ترجمة هذه الرؤية إلى عمل يومي متواصل.
وأكد أنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالاسترخاء بعد أي إنجاز، موضحاً أنه "أمس كنا في واشنطن، واليوم نحن في لندن، من دون أن نعلن نهاية الطريق". وشدد على أن زيارة واشنطن لم تعنِ أبداً أن أبواب العواصم الأخرى يمكن أن تنتظر؛ فأعلن أن الوفد السوري انفتح بالتوازي على الصين وغيرها من القوى الدولية، انطلاقاً من قناعة ترفض التفريط بأي فرصة علاقة تخدم سوريا.
واعتبر أن هذه المثابرة أنتجت نتائج ملموسة، في عالم يبدو متعطشاً لمثال ناجح يخفف من الإحباط السائد، خصوصاً في الدول العربية، ويستبدل الصورة التي رسخها "النظام البائد" عن سوريا بصورة بلد منفتح وعقلاني، لا نظام متحجر "يريد أن يمسح أوروبا عن الخريطة" ومنغلق عن العالم.
ونوه الشيباني بأن الناس تحب سوريا تاريخاً وشعباً وثقافة، فإذا وجدت من يمثلها بصورة لائقة، ويتيح في الوقت نفسه فرصاً للتعاون السياسي والاقتصادي، فإنها ترى في هذا "أفضل صفقة ممكنة". وفي هذا السياق، أعاد التأكيد على مبدأ مركزي في أداء القيادة الحالية: "لا نستسلم". قد نخسر جولة من الجولات، لكننا لا نسلم بالهزيمة؛ بل نعود لنقيم أنفسنا، ونحدد الأخطاء، ونبحث عن الطريق الأقصر لمعالجتها.
وانتقل الشيباني بعد ذلك إلى ما سماه "العقدة الروسية"، محذراً من تبسيط هذا الملف المعقد، وذكر بأن روسيا دولة كبرى وعضو دائم في مجلس الأمن، لكنها كانت حاضرة في سوريا عبر قواعد عسكرية وقصف جوي إلى جانب النظام السابق.
وأعلن أن القيادة الجديدة واجهت هذا الواقع بمرحلة تقييم قاسية وصريحة: لماذا هزمت الثورة السورية في 2016 و2019 و2020؟ وكيف استطاع النظام أن يستعيد مناطق واسعة مستفيداً من التدخل الروسي والإيراني ومن نقاط الضعف داخل المعارضة؟ وأوضح أن هذه المراجعة شملت أيضاً سؤالاً حساساً: لماذا بقي جزء من الشعب السوري في موقع رمادي أو في خندق النظام، رغم عدم استفادته منه؟ وكيف استطاعت بعض الطوائف أن تحتمي بالنظام على الرغم من سجله السيئ؟
واعتبر أن التعامل الجدي مع هذه الأسئلة كان شرطاً لصوغ استراتيجية جديدة، من بينها طريقة التعاطي مع موسكو. وأكد أن النظام السابق كان يكسب المعارك بفضل التفوق الجوي الروسي، إذ كان يدمر المدن من الجو ثم يتقدم إليها مشاة، في ظل غياب قدرة حقيقية على الصمود لدى قواته.
وحذر الشيباني من أن العودة إلى مشهد القصف الشامل بعد هدنة 2020–2024 كانت ستضع السوريين أمام "حركة انتقالية صعبة جداً"، لأن الناس في إدلب وغيرها كانوا قد عاشوا أطول هدنة منذ اندلاع الثورة. لذلك، كما يوضح، كان لا بد من تحييد سلاح الجو الروسي قبل أي تحرك عسكري جديد. ومن هنا انطلقت عملية "تفكيك العقدة الروسية": فهم مصلحة موسكو، والتمييز بين علاقتها بالنظام وبين مصالحها مع سوريا كدولة وموقع.
وبين أن القيادة السورية قررت الابتعاد عن الجبهات التي يتواجد فيها الروس بكثافة، كالساحل وبعض المحاور الحساسة، وفتح جبهة جديدة في منطقة الشيخ عقيل حيث كان النظام مدعوماً ببعض الميليشيات الإيرانية.
وخلال منتصف معركة "ردع العدوان"، وبعد أن بدأت الكفة تميل لصالح المعارضة، رأى الرئيس أحمد الشرع أن اللحظة أصبحت مناسبة للحديث مع الروس من موقع قوة نسبية وليس من موقع استجداء.
وأعلن الشيباني أن التواصل مع موسكو لم يتم عبر "القاعدة الروسية" في حميميم، بل مع "جهة عليا" اكتفى بالتلميح إلى أنها كانت قريبة إلى درجة أنه شعر وكأنه يتحدث مع الرئيس فلاديمير بوتين نفسه. وأكد أن القيادة السورية تعمدت في هذا اللقاء أن ترفض خطاب التشفي أو الإهانة، وأن تركز بدلاً من ذلك على خطاب عقلاني ومصلحي، يقوم على الاعتراف بأن موقف روسيا السابق إلى جانب النظام كان "موقفاً خاطئاً"، لكنه قابل للتصحيح وإعادة الصياغة.
ونبه إلى أنه ذكر الروس بأنهم أعادوا حلب للنظام عام 2016، ودفعوا ثمن ذلك من سمعتهم وعلاقاتهم الدولية، ثم رأوا لاحقاً كيف انسحب النظام وترك المنطقة، بما كشف هشاشة الرهان عليه. وأعلن أنه طرح عليهم بوضوح فكرة أن الشراكة مع هذا النظام "وهم سياسي"، بينما يمكن بناء شراكة حقيقية مع سوريا الجديدة على أساس مصالح واضحة، واتفاقيات وطنية، لا صفقات مع عصابة ولا ترتيبات مع ميليشيات.
وفي هذا السياق، جدد الشيباني جملته المفتاحية: "إسقاط نظام بشار لا يعني خروج روسيا من سوريا"، مؤكداً أنها كانت العبارة التي التقطتها موسكو بجدية، واعتبرتها مدخلاً لإعادة تموضع، لا لإخراج نفسها من المعادلة.
وأوضح أن الاتفاق الأولي شمل جملة من المبادئ: عدم إطلاق حملة سياسية لتشويه التغيير في دمشق عبر مجلس الأمن، عدم التحريض الإعلامي الواسع، وقف قصف المدن، تسهيل إعادة انتشار القوات الروسية أو انسحابها من بعض المواقع، مقابل مساهمة موسكو في إبلاغ النظام بأن "الأمور انتهت"، تجنباً لمعركة مدمرة في دمشق.
وحذر الشيباني من أن أي معركة في دمشق، خاصة في القلمون والمناطق الحصينة المحيطة بالعاصمة، كانت ستعني عملياً تدمير دمشق القديمة وإرثها التاريخي، واستحالة تعويض ذلك لاحقاً. لذلك، كما قال، كان حرص القيادة منصباً على تحقيق "انهيار سريع" للنظام بأقل قدر ممكن من الدمار في العاصمة.
وأشار إلى أنه حين سأله الروس إن كانوا يتوقعون الوصول إلى دمشق، أجابهم بثقة بأنه يتوقع ذلك خلال "48 ساعة" من لحظة معينة في مسار المعارك، الأمر الذي يبدو أنه دفعهم إلى تسريع إعادة نشر قواتهم خارج العاصمة، وهو ما انعكس مباشرة على معنويات حلفاء النظام.
وأكد الشيباني أن الموقف الروسي في تلك اللحظة كان "أذكى بكثير من الموقف الإيراني وأكثر براغماتية"، وأنه تعامل معه انطلاقاً من أولويته الأساسية: إعادة بناء سوريا، لا فتح جبهة جديدة مع قوة كبرى كان يمكن أن تستثمر علاقتها في خدمة هذا الهدف.
وفي الوقت ذاته، حذر من محاولات بعض الدول دفع دمشق إلى صدام مع موسكو تحت شعارات "إخراج روسيا من سوريا"، مذكراً بأن هذه الدول نفسها لم تتحرك طوال عشر سنوات سابقة لإنجاز هذا الهدف، بينما يطلب من سوريا اليوم أن "تورط نفسها" في مواجهة لا تخدم إعادة الإعمار.
وشبه الوزير هذا الواقع بالمثل الإنكليزي "لا يمكنك أن تمسك أرنبين في آن واحد"، موضحاً أنه اختار التركيز على "أرنب" إعادة الإعمار، وأعلن أن أي علاقة تعكر هذا المسار ستعاد صياغتها أو تعالج، وأي علاقة تسهم في دعمه سيتم التمسك بها.
ورفض البقاء أسير إرث الماضي أو "البكاء على الأطلال"، مؤكداً أن القيادة تنظر إلى المستقبل، لا إلى سجالات الأمس.
وفي ختام حديثه عن موسكو، جدد الشيباني التأكيد أنه حتى الآن "لا يوجد أي اتفاق نهائي مع روسيا" بشأن مستقبل قاعدتي حميميم وطرطوس، وأن ما يجري هو مفاوضات لم تصل بعد إلى صيغة مكتملة. لكنه أكد أن الأمر الأساسي الذي يريد طمأنة السوريين إليه هو أن أي علاقة مقبلة مع موسكو ستعاد صياغتها على أساس أن تكون "منتظمة ومحترمة"، وأن اتفاقية حميميم السابقة – التي وصفها باتفاق من طرف واحد وبصيغة إذعان كاملة – لن تعاد إنتاجها بصيغتها القديمة.
وشدد على أن سوريا لن تقبل أن تكون مجرد "ديكور" في أي اتفاق استراتيجي، وأن وجود القواعد الأجنبية على أراضيها لن يسمح له بأن يبقى بلا وظيفة واضحة تخدم مصلحة الدولة السورية أولاً وأخيراً.