تتعدد العوامل التي تساهم في شهرة الكتّاب، ومن أهمها نظرتهم الفريدة إلى الحياة والوجود. يرى كل كاتب العالم من منظوره الخاص، سواء كانت هذه النظرة متفردة أو سائدة، وهذا ما يميز أسلوبه وكتاباته، شكلاً ومضمونًا. الأمر يشبه الرسام الذي يرسم لوحة على قماشه وفقًا لرؤيته للوجه أو المنظر أمامه، وهو ما قد يراه شخص آخر بشكل مختلف.
الخيال، إذن، هو ابن الواقع المتخيل، وليس كليًا من محض الخيال. غالبًا ما يحتوي على عناصر من الواقع، فالقصص الخيالية تتضمن نسيجًا من الأحداث الحقيقية أو الأشخاص الموجودين، وهي المادة التي يتشكل منها النص المتخيل. كل هذا ينبع من نظرة الكاتب إلى الإطار الذي يكتب فيه. وكلما حقق الكاتب نجاحًا أو فاز بجائزة، يدرك أن الخيال الذي يُهنأ عليه مستمد مما شعر به فعليًا أو عاينه حوله.
"لوليتا" بين المتخيل والواقع
لنأخذ على سبيل المثال الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977) وروايته "لوليتا" (1955)، التي أثارت جدلاً واسعًا بين الرفض والقبول. بغض النظر عن ذلك، لا يمكن إنكار براعة الكتابة والملاحظة فيها، مما يشير إلى أن كاتبها يتمتع بنظرة خيالية خاصة لما يعالجه في نصه، مستمدة من بعض الواقع. وفي محاضرة له بعنوان "القرّاء الجيدون والكتّاب الجيدون" (1946)، نصح أهل القلم قائلاً: "إسحبوا الخيال من الواقع حولكم". فهو يرى أن النص الخيالي هو مجموعة ملاحظات واقعية ينسجها الكاتب ببراعته، وأن الأشخاص المتخيلين في الرواية ليسوا دائمًا متخيلين كليًا، بل يحملون ملامح من أشخاص واقعيين في محيط الروائي.
سوزان سونتاغ
الكاتبة والناقدة سوزان سونتاغ (1933-2004) قالت يومًا في خطاب لها سنة 1999: "الكاتب هو من ينتبه إلى العالم حوله". كانت تقصد أن الكاتب الجيد هو مراقب جيد للتفاصيل الدقيقة أو خصائص شخص أو عادة جماعة. وهذا ليس متاحًا لعموم الناس: مشهد وصول شخص يوميًا إلى المقهى في الوقت ذاته وطلبه القهوة ذاتها، المرأة التي دخلت مخزنًا مع زوجها وتفتش بين رفوف الثياب عن مطلبها، وعيني طفل مفتوحتين تلمظًا أمام خزانة الحلويات في واجهة محل الحلوى. هكذا، ملاحظات بسيطة صغيرة تفصيلية يصبح مجموعها مشاهد تستقطب اهتمام الكاتب، وينقلها إلى القارئ على أنها من خياله كليًا فيما هي جزئيًا من الواقع.
الملاحظة للقرّاء أيضًا
ليس على القارئ أن يتحول إلى كاتب ليكون دقيق الملاحظة. فهو غالبًا ما يتابع ما يلاحظه الكاتب، في انسيابه مع صفحات الكتاب، باحثًا بين الأسطر عما هو خيالي وما هو مستوحى من الواقع. من هنا، فإن القراءة اليومية تريح الدماغ من ضواحي التشنج، لما في القراءة من سياحة ذهنية مريحة. هكذا يتضح أن الملاحظة ليست مقتصرة على الكتاب وحدهم، بل هي نهج يومي يساعد على المواصلة، وخصوصًا على تجنب أي خطر داهم، في الشارع أو في البيت، فتكون الملاحظة دليلًا إلى حسن استخدام الوقت، وإلى اعتماد التغيير في سلوك أو تصرف، وبالتالي ليس الكتاب وحدهم من يدعون إلى التنبّه والملاحظة بل هي قناعة ذاتية.
ليديا ديفيس: التدوين اليومي
القراءة طريق إلى التركيز، وهنا يبرز دور القراءة الواعية. قد يحدث أن نقرأ صفحات أمامنا، ثم نكتشف أننا لم نتابع تمامًا ما جاء فيها. لذا نعود إلى الصفحات السابقة، وندعو دماغنا إلى التنبّه الواعي في إعادة قراءتها من جديد، مع التركيز الذهني الوافي. هكذا تكون القراءة طريقًا إلى الانتباه والتركيز.
إذًا، ليس ضروريًا أن نتلبس دور الكاتب كي "نلاحظ"، بل نسعى، كما الكاتب، أن نلاحظ ما يدور حولنا كأننا سنستمد منه مادة واقعية للكتابة. من هنا عبارة القاصة الأميركية ليديا ديفيس (م.1947): "حين ندوّن يومياتنا باستمرار، نقوّي دربة الملاحظة عما يدور حولنا، كما نقوّي دربتنا على الكتابة الواعية كل يوم". وطبعًا هي هنا لا تقصد الناس عمومًا بل الكتاب خصوصًا، لأن امتشاق العادة اليومية في الكتابة، يساعد على توقد الذهن في الملاحظة والتعبير، فتصبح هذه العادة طبيعة أخرى فينا تضيف بعدًا جديدًا خلاقًا إلى إيقاعاتنا اليومية.
إدمان القراءة منذ الطفولة
هكذا، كلما قرأنا أكثر، عوّدنا انتباهنا إلى الملاحظة أكثر. فالدماغ يتبلور وينصقل في التحدي الذاتي الدائم. هذه هي اللحظات التي تصقل فينا دقة الملاحظة سبيلًا إلى دقة الوصف. هذه الدقة هي التي تميز كاتبًا عن آخر.
أخبار سوريا الوطن١-وكالات-النهار