د. ناصر زيدان: سعاد الصباح، نجمة مشرقة أضاءت الخليج العربي، وامتدت عطاءاتها لتغطي مساحات واسعة، بينما احتضن صدرها الرحب آفاقًا بعيدة لا تدركها إلا العقول النيرة. فضاءات زاخرة بالإبداع والفكر والإنسانية والشعر.
تقول سعاد الصباح: "كن صديقي" (عنوان قصيدة لها غنتها الفنانة الكبيرة ماجدة الرومي). أنا ابنة الكويت، ابنة الشاطئ، من هنا أبحر أجدادي ثم عادوا يحملون المستحيل. كلمات ليست كغيرها، فرمال الشواطئ والصحاري أكسبتها سمرة ووقارًا، وبساتين الفاو، الجارة الخضراء للكويت، منحت شعرها ربيعًا طويلاً وأزهارًا.
على الرغم من مرور سنوات طويلة من حياة الشيخة الشاعرة الدكتورة سعاد محمد الصباح، إلا أننا لم نكتشف بعد من هي بالتحديد؟ وكيف قسا قلبها إلى هذا الحد؟ وما الذي دفعها للولوج إلى مساحات مخفية أو معلومة! لقد خرجت على التقاليد المتأصلة دون أن تتنكر لها، وتمردت على رفعة الجاه إلى ما هو أسمى منه، وانحنت أمام الكلمة. والكلمة، إذا كانت حقًا أو تعبر عن الحق، فهي في الوقت نفسه شقاء وصراع وسجن وإبعاد، وربما مشنقة.
لا يمكن أن تكون سعاد قد اندفعت إلى هذا الخضم المتعب القاسي لولا شغفها بالعلم وإيمانها بسمو الأخلاق وبتأثير عمل الخير، فهي ابنة الأسرة النبيلة التي بايعها ربعها على القيادة، وولدت وملعقة الذهب في فمها.
ولا شك في أن الإيمان ذاته هو الذي دفعها إلى كل هذا العناء والكد اللذين استهلكا سنوات حياتها وأيامها من خلال حمل متاعب الناس وهموم الشعراء والكتاب، وفي التفكير والتأليف والنشر والإبداع، وفي العيش المتواضع بين كتب العلم ودواوين الشعراء، بينما ثروات أسرتها تكفي لرغد العيش لأجيال وأجيال.
سعاد، فاتنة هرولت ركضًا إلى مساحة الحرية والعطاء والعمل. ما أسعد الكويت بوجودها مع نخبة واسعة من الحكماء والعقلاء والصادقين وأهل الخير. أيتها الشقية الفريدة، قولي لنا: ماذا فعلت لتصلي إلى هذه المكانة الرفيعة في قلوب المتميزين والبسطاء على حد سواء، وهي المكانة التي قلما وصلتها امرأة من قبل؟ أيتها المتحررة من قيود التكبر والتجبر، والساحرة بصوتك قبل قلمك: انثري سر نجاحك عل السر يفيد، وألقي وشلًا من بحر نتاجك، وانثريه في فضاء وجودك، سينقلب الجو رأسًا على عقب، وسيفوح عطاؤك عطرًا غاردينياً خاصًا يحيي القلب والعقل واللسان.
تركت سعاد الصباح الامتيازات والسلطة والتبرج منذ نعومة أظافرها، وسارت على طريق الخير والتقدم ووراء الحروف، وما أدراكم ما كان متعبًا البحث عن توليف الحروف في زمن الأزمات والخوف. بحث يثير الفضوليين والمبغضين، ويبعد إلى خارج الوطن، وقد يدفع إلى داخل السجون. بالمقابل، فإن صدى بعض العبارات المنتقاة هز نجوم سلاطين الاستعمار العتاة، وارتعشت عند ذكرها القامات، والتوت خواصر المستبدين والظالمين الذين تحكموا بالكويت قبل استقلالها في عام 1961.
سعاد الصباح، خليجية الانتماء، وعراقية المولد، ومصرية القلب، ومغربية العقل، ولبنانية التألق، وفلسطينية الهوى، وشامية العاطفة. كلما ازدادت أيام حياتها، كلما اقتربت إلى قلوبنا أكثر فأكثر. وكلما استمعنا إلى صوتها على المنابر وفي الشاشات، كلما ازداد الحنين إليها وانفرجت الذاكرة معها من اختناق الأفق البعيد. آهٍ، كم هي عربية في الأصل والشكل والثقافة والصدق والعنفوان، وكم هي إنسانية تحترم التنوع وخصوصيات الآخرين، متفتحة كزهر الياسمين الذي يعطي نشوة عطره دون تفرقة إلى الشمال وإلى اليمين.
سعاد حبيبة المؤمنين بالقيم، حبذا لو تنبعث مجددًا بعد العمر المديد إلى مساحة الاستشراف والابتكار، لنستعيد معها بعضًا من ندى الماضي وثراه الخصب، لنزرع فيه بذور المستقبل، علها تنبت علمًا ورخاءً وازدهارًا، وعشب خير يشمخ عاليًا بحباته إلى ما فوق الحور العمودي الصبور.
سعاد فراشة سؤدد عربية، كم نحن بحاجة إليها ولأمثالها، لنقل الرحيق من برعم زهرة إلى برعم زهرة أخرى، لمذاكرة نواة ثمار المعرفة، لتثمر خيرًا ودواءً وشفاءً ورقيًا ومحبة ومساواة دون تفرقة بين الناس، في وقت كثر فيه ذباب النميمة والتعصب، والذباب لا ينجذب إلا باتجاه أكوام النتانة والعسس. كم نحن بحاجة إليها لتعميم الجلال والوقار والجمال في موطني الذي يترنح على مقصلة العذاب المقيتة. كم نحن بحاجة لعذوبة صوتها الذي يجذب الرقة والذوق والخيال من مسافات بعيدة، وتسجد له الآذان كما يسجد المؤمنون لصوت الصلاة.
عاشت الثقافة المنفتحة والمتحررة ضمانة لاستمرار البشرية على الصراط الراقي القويم.
*بعض مما ورد في مداخلة في احتفالية تكريم الشاعرة سعاد الصباح في مدينة الناظور المغربية
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.
أخبار سوريا الوطن١-النهار