دمشق – المهندس باسل قس نصر الله
قد تبدو الحروب اليوم بلا جيوش أو دبابات أو قصف جوي، لكنها في جوهرها أشد فتكًا: أكثر هدوءًا وأعظم خطرًا. إنها "حرب القوة الناعمة"، التي تتحرك بلطف النسيم وتترك أثرًا مدمرًا كالإعصار. قوة لا ترهبك، بل تغريك؛ لا تجبرك، بل تقنعك؛ لا تأتيك بالسوط، بل بالوردة.
في هذا السياق، تحولت الاستراتيجية الأمريكية منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا منذ أن قدم جوزيف ناي مفهوم "القوة الناعمة" عام 1990، من التدخل العسكري إلى استراتيجية أكثر دهاءً: التأثير من الداخل. لم يعد الهدف تغيير نظام بالقوة، بل تغيير المجتمع نفسه ليطالب بالتغيير. يُراد للناس أن يتبنوا ما تريده أمريكا دون أن يشعروا بأنه مفروض عليهم.
ولكن، ما هي هذه القوة الناعمة التي أصبحت كلمة السر في السياسة الدولية؟ ناي، الذي شغل مناصب رفيعة في حكومة كلينتون وأسس مفاهيم أثرت في عهد أوباما، عرفها بأنها القدرة على "جعل الآخرين يريدون ما تريد"، عبر أدوات غير عسكرية: الثقافة، التعليم، الإعلام، الاقتصاد، القيم، وحتى الطعام والسينما.
بمعنى أوضح: أن تحبك الشعوب، فتتبعك.
ولعل الشرق الأوسط هو المسرح الأبرز لتفعيل هذه الأدوات، إذ أخذت الولايات المتحدة، منذ 2004، تسعى لعزل حزب الله مثلاً عن بيئته الاجتماعية من خلال نزع شرعيته ثقافيًا وسرديًا، لا فقط عبر محاصرته عسكريًا. فتهميش الأفكار والإيديولوجيا بات أكثر فاعلية من استهداف الجغرافيا.
إن القوة الناعمة لا تغير السلوك مباشرة، بل تغير "البيئة التي يُتخذ فيها السلوك". فهي تعمل تحت جلد المجتمع، من خلال إعادة تشكيل بنيته المعرفية، وهويته الثقافية، ونظام قيمه. الاستطلاعات، نتائج الانتخابات، المسوحات النفسية، كلها أصبحت أدوات لقياس نجاحها، ولو أن قياسها – كما يقول ناي – يبقى صعبًا، لأن تأثيرها غير ملموس، ويعتمد على تصورات الآخرين.
القوة الناعمة، إذاً، ليست كافية وحدها. لكنها ضرورية. فكما أن اللذة الناعمة لا تنفك عن الجسد، كذلك لا تنفك عرى المجتمعات من ثقافتها بسهولة. هي معركة نفس طويلة الأمد، وناجحة فقط عندما تُبنى على مشترك ثقافي بين الفاعل والمستهدف.
هذا ما تفعله الصين منذ 2007، حين أعلنت رسميًا في عهد هو جين تاو، تعزيز الثقافة كجزء من استراتيجيتها الناعمة، مستخدمة الاقتصاد كذراع ممدود. وهكذا فعلت روسيا، لكن متأخرة، كما اعترف وزير خارجيتها لافروف عام 2013، قائلاً: "بدأنا بالسيطرة على أدوات القوة الناعمة متأخرين جدًا".
وفي خضم هذا السباق العالمي، لا بد من الإشارة إلى أن المسلمين والعرب في الغرب يحملون على عاتقهم مسؤولية مضاعفة: فهم الوجه الناعم للإسلام في مجتمعاتهم، وسلوكهم الحضاري يعزز مكانة دينهم أكثر من أي خطاب. القوة الناعمة هنا ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية.
وإذا كانت القوة الذكية هي المزج بين الصلابة والنعومة، فإن من لا يمتلك الأولى، عليه أن يتقن الثانية. ومن لا يفهم أن الأغنية قد تسقط حاكمًا، وأن الفكرة قد تفجر ثورة، فإنه يعيش في عالم لم يعد موجودًا.
في النهاية، حرب القوة الناعمة ليست حربًا نائمة. هي صاخبة بلا ضجيج. جذابة بلا إكراه. وحين تكون أدواتها الفن، والدراما، والتعليم، والدبلوماسية، فإن انتصاراتها لا تقاس بعدد القتلى، بل بعدد العقول التي تم تغييرها، ولو كانت تظن أنها اختارت ذلك بإرادتها.
فمن يفك عنا هذا الغرام الناعم؟ وأي أصابع تمسك بذاك الخيط الذي يشدك إلى حيث لا تدري؟
اللهم اشهد أني بلغت