الإثنين, 24 نوفمبر 2025 02:32 PM

النمسا تحاكم مسؤولين سابقين في النظام السوري بتهمة ارتكاب انتهاكات جسيمة: شهادات مروعة تظهر

النمسا تحاكم مسؤولين سابقين في النظام السوري بتهمة ارتكاب انتهاكات جسيمة: شهادات مروعة تظهر

فيينا-سانا: وجهت النيابة العامة في النمسا اتهامات رسمية إلى مسؤولين سوريين سابقين بتهمة ارتكاب انتهاكات جسيمة وممنهجة خلال فترة عملهما في الأجهزة الأمنية التابعة للنظام البائد. المتهمان هما العميد السابق في المخابرات السورية جمال الحلبي، الذي شغل منصب رئيس فرع أمن الدولة في مدينة الرقة، والمقدم مصعب أبو ركبة، الضابط المسؤول عن مكتب التحقيق الجنائي.

تأتي هذه الخطوة بعد سنوات طويلة من التحقيقات التي استمرت لأكثر من عقد، بمشاركة ناجين سوريين ومنظمات حقوقية، وتعتبر من أهم ملفات العدالة العابرة للحدود في أوروبا.

أفاد بيان صادر عن النيابة العامة بأن الضابطين متهمان بارتكاب جرائم جسيمة وانتهاكات ممنهجة بحق مدنيين معتقلين خلال الحرب في سوريا، بما في ذلك العنف الجسدي والتعذيب الوحشي والاعتداءات الجنسية، وذلك بين عامي 2011 و2013 في مدينة الرقة. وأشارت النيابة إلى أن السلطات تمكنت حتى الآن من التعرف على 21 ضحية.

كشفت التحقيقات أن المتهمين دخلا النمسا في عام 2015 وتقدما بطلبات لجوء، مدعيين أنهما ضحايا حرب، قبل أن يتعرف عليهما عدد من الناجين السوريين الذين كانوا محتجزين في الأفرع الأمنية نفسها التي عملا فيها.

محمد الحاج... من ضحية إلى شاهد على أحد جلاديه

يعد محمد الحاج، وهو من مدينة الرقة، أحد أبرز الشهود الذين لعبوا دوراً محورياً في كشف هوية الضابطين ومتابعة ملفهما. يروي الحاج أن اعتقاله تم بطريقة تعسفية في أحد مقاهي الرقة عام 2012، عندما اقتحم عناصر أمن تابعون للنظام البائد المكان بناءً على معلومة من مخبرين مدنيين. ووجهت للحاج تهمة المشاركة في الحراك الثوري ضد النظام، على الرغم من عدم تمكن السلطات من إثبات أي تهمة حقيقية ضده.

ويضيف الحاج أنه نُقل مباشرةً إلى فرع أمن الدولة في الرقة، حيث تعرض لتعذيب قاسٍ في فرع الأمن الجنائي قبل نقله لاحقاً إلى سجن مدني ووضعه في زنزانة ضيقة ومظلمة. وأكد أن أساليب التعذيب التي مورست عليه كانت تفوق الوصف، وشملت الضرب المبرح والصعق بالكهرباء والتعليق لفترات طويلة، وهي مشاهد تطابق ما وثقته المنظمات الدولية عن سجون النظام البائد.

أوضح الحاج أن خالد الحلبي وعناصره كانوا من أبرز المشرفين على تعذيب المعتقلين، دون أن يتمكن الضحايا من التعرف إلى هويتهم داخل المعتقلات، حيث كانت أعينهم تُغطّى بالقماش أثناء عمليات التعذيب. أما مصعب أبو ركبة، فكان شخصية معروفة لدى أبناء مدينة الرقة بسبب دوره في قمع المظاهرات والحراك السلمي داخل المدينة.

ويتابع الحاج أن التحقيق كان يُجرى بإشراف خالد الحلبي، رئيس فرع أمن الدولة، الذي كان يمارس مختلف أساليب التعذيب. ويؤكد أن الحلبي بقي مجهول الهوية لسنوات طويلة داخل المعتقل، إلا أنه لم ينسَ صوته الذي ظلّ عالقاً في ذاكرته كأحد المسؤولين المباشرين عما تعرض له من انتهاكات وتعذيب.

خرج الحاج من المعتقل بعد دفع مبالغ مالية وكتابة تعهد بعدم المشاركة في أي نشاط معارض. وفي عام 2013، عمل متطوعاً مع الهلال الأحمر القطري، قبل أن يغادر سوريا عام 2014، في رحلة لجوء شاقة انتهت في النمسا في العام نفسه.

بعد أيام قليلة من وصوله إلى مركز لجوء في النمسا، فوجئ الحاج برؤية أحد الضباط الذين كانوا يعملون في معتقلات النظام البائد، وهو مصعب أبو ركبة، المعروف في مدينة الرقة بدوره في قمع الحراك السلمي والمتظاهرين، إضافة إلى كونه أحد كبار المسؤولين والمشرفين في أحد أكبر معتقلات النظام في المدينة.

بعد التأكد من هويته، رفع الحاج دعوى قضائية ضده أمام المحاكم النمساوية، بمساعدة منظمات حقوقية ومحامين سوريين ونمساويين. وخلال متابعة الملف من قبل الجهات المختصة، تبين أن مصعب أبو ركبة لم يكن وحده ممن وصلوا إلى النمسا، بل كان برفقة العميد خالد الحلبي، الذي كان يشرف على تعذيب محمد الحاج وغيره من أبناء مدينة الرقة.

ووفقاً لما نشرته صحيفة نيويورك تايمز، تبين أن الحلبي وصل إلى أوروبا عبر فرنسا، ويزعم أنه كانت له اتصالات مع جهات استخباراتية أجنبية، بينها الموساد الإسرائيلي، خلال فترة عمله في مخابرات النظام.

لعب المحامي أسيد الموسى، وهو أيضاً من مدينة الرقة، دوراً بارزاً في كشف حقيقة الضابطين ومتابعة ملفهما منذ البداية. وقد ساعد الحاج في توثيق شهادته، وإعداد الملفات القانونية، والتواصل مع محامين متخصصين ومنظمات حقوقية في النمسا وخارجها.

بفضل المتابعة الدقيقة لموسى، وعمل فرق من المحامين السوريين في المهجر، استطاعت الجهات القضائية النمساوية بناء ملف متكامل جرى تدعيمه بشهادات ناجين وصور ووثائق وتقارير طبية وإنسانية.

شهادات لأكثر من 21 ناجياً

استمرت القضية في المحاكم والنيابة العامة النمساوية لسنوات طويلة، شهدت خلالها عشرات الاستجوابات وجمع الأدلة والاستماع إلى شهادات ما لا يقل عن 21 ناجياً، بينهم محمد الحاج، وآخرون تمكنوا من التعرف على الضابطين.

أعلنت النيابة العامة مؤخراً أن التهم الموجهة إليهما تشمل "ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق مدنيين احتجزوا تعسفياً بما في ذلك التعذيب العنيف والاعتداءات الجنسية".

وأكدت النيابة أن المحاكمة لا تزال جارية، ضمن إطار مبدأ الولاية القضائية العالمية التي تتيح للدول محاكمة مرتكبي جرائم الحرب حتى لو ارتُكبت خارج حدودها.

اليوم، يقف جلادو النظام أمام القضاء النمساوي في فيينا بعد سنوات من الإفلات من العقاب، بجهود محامين، وتعاون منظمات حقوق الإنسان، وإصرار ناجين على ملاحقة الحقيقة حتى النهاية.

يأمل الحاج، ومعه الكثير من السوريين، أن تكون هذه المحاكمة خطوة أولى نحو فتح ملفات جميع المعتقلين والمفقودين في سجون النظام البائد، وكشف الحقيقة كاملة عن مصيرهم، والاعتراف بالمعاناة التي عاشوها. ويوضح أن العدالة لا تكتمل إلا عندما يُحاسَب كل من شارك في التعذيب والقمع والانتهاكات، مهما طال الزمن أو تغيّرت الظروف.

ويشير الحاج أيضاً إلى أن آلاف السوريين ممن فقدوا أبناءهم داخل معتقلات نظام الأسد المجرم أو تعرضوا لانتهاكات مشابهة مع قمع وبطش النظام البائد ينتظرون اليوم لحظة الاعتراف بمعاناتهم وإقرار حقوقهم ومنحهم شيئاً من الإنصاف الذي حرموا منه لسنوات طويلة.

ويختم محمد الحاج قائلاً: "لسنا نبحث عن الانتقام، بل عن الحقيقة، وعدالة تحفظ كرامة السوريين وتعيد لهم حقهم في الحياة بعد أربعة عشر عاماً من الثورة السورية التي قدمنا لأجلها آلاف الضحايا من معتقلين ونازحين خارج البلاد".

يشار إلى أن هذه القضية واحدة من أهم المحاكمات التي تطال مسؤولين سابقين في النظام السوري البائد داخل أوروبا، وتشكل تقدماً ملحوظاً في مسار العدالة للضحايا السوريين.

مشاركة المقال: