الإثنين, 15 سبتمبر 2025 09:58 AM

تراث المؤونة السورية: بين ذكريات الاكتفاء وتحديات الواقع الاقتصادي

تراث المؤونة السورية: بين ذكريات الاكتفاء وتحديات الواقع الاقتصادي

تشهد "المونة" السورية، وهي تقليد عريق في الحياة المنزلية، تراجعاً ملحوظاً بعد أن كانت رمزاً للاكتفاء الذاتي لعقود طويلة، وتجسيداً لثقافة الإنتاج المنزلي والتعاون بين النساء والجيران، في موسم تفوح منه رائحة الفليفلة ودبس البندورة، وتُحكم فيه إغلاق المرطبانات استعداداً للشتاء.

حتى وقت قريب، كانت المؤونة حدثاً موسمياً مهماً في حياة الأسر السورية، يبدأ مع نهاية الصيف استعداداً للشتاء. كانت المواد الأولية متوفرة بأسعار معقولة، ومعظم النساء غير عاملات، مما منحهن الوقت والجهد لتحضير أصناف عديدة من المؤونة، بدءاً من المكدوس والمربيات ودبس الفليفلة، وصولاً إلى الأجبان واللبنة المجففة. تقول السيدة أم مهند (58 عاماً)، ربة منزل: «كنا نحضر كل شيء في البيت، نشتري كميات كبيرة من البندورة، نغليها ونعبئها في مرطبانات، ونجتمع مع الجارات لتجهيز الفليفلة، نقطع الأجبان ونخزنها بزيت الزيتون. كانت الأجواء مليئة بالحياة والتعاون، كل بيت يفتح أبوابه للآخر».

وتضيف: «اليوم تغير كل شيء. بالكاد نشتري حاجتنا اليومية، والمونة التي كانت تحضر بكميات وفيرة، صارت رفاهية لا نقدر عليها. بدل ما نخزن للشتاء، أصبحنا نشتري بالأوقية حسب القدرة».

ما كان يوماً تقليداً سنوياً لا غنى عنه، أصبح اليوم عبئاً ثقيلاً على الأسر، خاصة في ظل غلاء المعيشة وتزامن موسم المؤونة مع افتتاح المدارس وتكاليفها الباهظة. تقول عبير حمدان (37 عاماً)، موظفة وأم لثلاثة أطفال: "أنا أعمل بدوام كامل، ووقتي لا يسمح بتحضير المؤونة. فضلاً عن أن الأسعار مرتفعة! كيلو الفليفلة بـ10 آلاف ليرة، تنكة الزيت بأكثر من مليون… هذه السنة اشترينا كمية قليلة من المكدوس الجاهز، واستغنينا عن أصناف عديدة من المؤونة".

من جانبها، ترى الباحثة الاجتماعية راميا صبيرة أن ما يحصل ليس تراجعاً اقتصادياً فقط، بل هو خسارة ثقافية واجتماعية حقيقية. وتوضح: "المؤونة كانت تعبيراً عن الاكتفاء الذاتي، وعن البيت كخلية إنتاجية. اليوم، مع دخول النساء إلى سوق العمل، وارتفاع أسعار كل مكوناتها تقريباً، من الخضار والزيوت والمكسرات، إلى الأجبان والحبوب، تخلت الكثير من الأسر عن صناعتها المنزلية، واعتمدت على المنتجات الجاهزة".

وتتابع: "خسارتنا لا تقتصر على النكهة وجودة المأكولات، بل تمتد لتشمل القيم الاجتماعية التي كانت تبنى خلال موسم المؤونة، من العمل الجماعي، إلى الروابط بين الأجيال".

رغم التراجع الكبير، لا تزال بعض الأسر تحاول الحفاظ على طقس المؤونة، ولو بشكل رمزي. في ظل الغلاء، اتجهت بعض العائلات إلى الزراعة المنزلية فوق الأسطح لتأمين الحد الأدنى من الخضروات، بينما فضل آخرون الشراء الجماعي من المزارعين لتقليل التكاليف.

لم تعد المؤونة كما كانت، لكنها لم تختفِ تماماً. فبين زمن الوفرة وزمن الغلاء، تحاول الأسر السورية أن تتكيف مع الواقع، دون أن تتخلى كلياً عن إرث غذائي وثقافي عريق. يبقى الحنين إلى نكهتها وروحها حاضراً، في الذاكرة، وفي الرغبة بالاحتفاظ بطقوس صنعت جزءاً كبيراً من دفء البيت السوري.

مشاركة المقال: