الجمعة, 7 نوفمبر 2025 09:56 PM

حرب المنصات الرقمية: كيف تمحو إسرائيل ذاكرة غزة وتاريخ الإبادة؟

حرب المنصات الرقمية: كيف تمحو إسرائيل ذاكرة غزة وتاريخ الإبادة؟

لم يعد الصراع في فلسطين مقتصراً على الأرض المحتلة والشعب المنكوب، بل امتد إلى الفضاء الرقمي الذي تديره شركات التكنولوجيا العملاقة، حيث تتحول الحقيقة إلى مادة قابلة للتلاعب وفقاً للمصالح السياسية.

في السنوات الأخيرة، كشفت حرب السرديات عن تحول جوهري تجلى في تراجع صورة إسرائيل الأخلاقية عالمياً، وبروز الرواية الفلسطينية في المنصات الرقمية. هذا التغير أزعج المنظومة التي اعتادت إنتاج رواية واحدة وتعميمها، فانتقلت المواجهة إلى الفضاء الرقمي، حيث تحاول إسرائيل إسكات الأصوات التي توثق الجرائم، خاصة في قطاع غزة.

في هذا السياق، برز ملفان يوضحان حجم التدخل السياسي في إدارة المعرفة الرقمية: الأول هو تدخل إدارة موقع «ويكيبيديا» لوقف التعديل على صفحة «الإبادة في غزة»، والثاني هو محو يوتيوب لأرشيف بصري يتضمن مئات المقاطع التي توثق جرائم حرب إسرائيلية.

«الحياد» بوابة لإنكار الإبادة

تعالت الأصوات العالمية والسياسية والفنية لتصف ما يحدث في غزة بالإبادة، بما يتفق مع التقارير الأممية ومحكمة العدل الدولية التي تصف قادة «إسرائيل» بمجرمي الحرب وتطالب بمحاكمتهم.

إلا أن المؤسس المشارك لـ «ويكيبيديا»، جيمي ويلز، اختار عكس ذلك تماماً، مصنفاً صفحة Gaza genocide بأنها «منحازة ضد إسرائيل» و«لا تلتزم بالحياد» وتحتاج إلى «تصحيح فوري». وذهب أبعد من ذلك بوصفها «مثالاً صارخاً» على غياب الموضوعية.

بحسب تصريحاته المنشورة، فإن مشكلته الرئيسية تكمن في أن الصفحة «تقول إن إسرائيل ترتكب إبادة»، لكنه يعتبر أن «هذا الادعاء موضع خلاف شديد». هنا يبدأ التهكم. خلاف شديد بين من ومن؟ بين الأمم المتحدة، التي قالت بوضوح إن ما يحدث يرقى إلى الإبادة، وبين حكومة الاحتلال التي تنكر كل شيء؟ هل يصبح الإجماع الحقوقي الدولي مجرد «رأي»، بينما تعامل مواقف الحكومات المشاركة في الحرب باعتبارها «مصادر موازية»؟

لم يكتف ويلز بتدخله العلني، بل قدم نسخة جاهزة لما يعتبره افتتاحية «محايدة» تتضمن: «حكومات ومنظمات وكيانات قانونية عدة وصفت أو رفضت وصف ما يحدث في غزة بأنه إبادة». جملة تعيد تعريف الحياد باعتباره مسافة متساوية بين الجلاد والضحية، وبين الأدلة والإنكار، وبين التقارير الدولية وتصريحات العلاقات العامة الإسرائيلية. أمام هذا الموقف الصادم، ضج محررو «ويكيبيديا» واصفين موقف ويلز بأنه «محبط» و«مسيّس»، كما اتهم بعضهم إدارة الموقع بأنها تقفز فوق الإجماع الأكاديمي.

وشبه أحدهم الموقف بالسخرية قائلاً: «لو اتبعنا هذا المنطق، لكان علينا القول إن شكل الأرض ما يزال موضع نقاش». والمعنى واضح: حين يقول العلماء والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إن ما يحدث إبادة، تصبح مهمة منصة معرفية مثل «ويكيبيديا» توثيق هذا الإجماع، لا إعادة كتابته ليوافق الرواية الإسرائيلية.

أرشيف كامل يُمحى بقرار سياسي

بالتوازي مع معركة «ويكيبيديا»، جاءت الضربة الأعمق من «يوتيوب»، الذي محا دفعة واحدة أكثر من 700 مقطع وثقتها ثلاث من أبرز المنظمات الحقوقية الفلسطينية: «الحق»، و«الميزان»، و«المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان»، وفقاً لتقرير موسع نشرته مؤسسة The Intercept الأميركية.

هذه المواد لم تكن مجرد محتوى إعلامي، بل أرشيفاً بصرياً يوثق جرائم حرب، ويقدم شهادات لأمهات ثكالى، ويدرس اغتيال الصحافية الأميركية ـ الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، ويعرض أدلة على الهدم الممنهج للمنازل في الضفة.

لم يحتج يوتيوب إلى تبريرات كثيرة، إذ قالت الشركة المالكة له غوغل، إن الخطوة جاءت «التزاماً بالعقوبات الأميركية» التي فرضت على هذه المنظمات بسبب تعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية. بكلمات أوضح، تحولت سياسة عقوبات سياسية أحادية إلى آلية لمحو الأرشيف الحقوقي الفلسطيني من الفضاء الرقمي.

ورداً على هذه الخطوة، عبرت منظمات حقوقية أميركية عن صدمتها. في هذا الإطار، أشارت المديرة التنفيذية لمؤسسة DAWN الحقوقية، سارة لياه ويتسن، إلى أن القانون لا يعتبر مشاركة المعلومات والوثائق خرقاً للعقوبات، بينما رأت المحامية في «مركز الحقوق الدستورية»، كاثرين غالاغر، أن قرار الشركة «يسهم في إخفاء الأدلة على جرائم الحرب». أما المنظمات الفلسطينية الثلاث، فأكدت أن محو أرشيفها «يسهل إفلات إسرائيل من المساءلة» ويمنع الضحايا من إيصال صوتهم.

ما حدث لم يكن مجرد حذف قنوات، بل هدف إلى إزالة ذاكرة كاملة تتضمن تحقيقات، وشهادات، ومقاطع أرشيفية نادرة، وتوثيقات لا بديل منها. بعضها بقي محفوظاً على الإنترنت عبر منصات أخرى، لكن معظمها صار مهدداً بالاختفاء، في ظل رضوخ المنصات الأميركية لتوجيهات سياسية هدفها حماية إسرائيل من المساءلة الدولية.

إبادة افتراضية

ما بين بوابة «ويكيبيديا» وشرطتها اللغوية، وبين مقصلة يوتيوب التي تطيح بأرشيف كامل، تتضح صورة الحرب المنظمة على الذاكرة الفلسطينية التي لا تقل خطورة عن الحرب العسكرية على الأرض. فإسرائيل تدرك أن صور المجازر وشهادات الضحايا وتقارير الإبادة باتت تتسرب إلى وعي العالم بسرعة غير مسبوقة، وأن السيطرة على السردية تتداعى. لذلك، تنتقل المعركة اليوم إلى حيث مسرح الحقيقة في الزمن المعاصر: عالم المنصات الرقمية.

لا تقف المعركة عند حدودها التقنية، فهي ترقى بأهدافها السياسية إلى أن تكون جزءاً من الإبادة، تارةً للجسد، وطوراً للذاكرة. وفي قلب حرب الإلغاء الافتراضية، يقف الفلسطينيون، مرة جديدة، بين عالم يسعى إلى محوهم مادياً، ومنصات تحاول محو أثرهم المعرفي.

مشاركة المقال: