دمشق-سانا: في ظلام دامس، تصبح الكلمة شعاع نور قد لا يدركه السجّان، فكل ما يُكتب داخل الزنازين أو عنها، يمثل مقاومة لا تقلّ أهمية عن النجاة نفسها. انطلاقاً من هذا التصور، يقدّم كتاب "أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحليلاً معمقاً لتجربة سردية تنبع من بيئة قمعية متوحشة، حيث تتحول الزنازين إلى مختبر للغة، والسرد إلى وسيلة للبقاء والاحتجاج.
الكتاب من تأليف الباحثة الأميركية ريبيكا شريعة طالقاني، الأستاذة المساعدة ومديرة دراسات الشرق الأوسط في كلية كوينز – جامعة مدينة نيويورك، وقام بترجمته إلى العربية الباحث السوري الدكتور حازم نهار، المعروف بمساهماته في الفكر السياسي والنقد الثقافي.
تتمحور الفكرة الأساسية للدراسة حول الربط بين أدب السجون وخطاب حقوق الإنسان. ترى المؤلفة أن نصوص هذا الأدب تقدم مشاهد اعتراف سردية تظهر حجم المعاناة التي يواجهها المعتقلون، وترتبط في الوقت نفسه بخطاب حقوق الإنسان العالمي، مما يحول هذه النصوص إلى أدوات للوعي السياسي والأخلاقي.
تعتبر طالقاني أدب السجون السوري مشروعاً أدبياً وموقفاً أخلاقياً، تتداخل فيه اللغة مع الألم، وتتحول السيرة الذاتية إلى احتجاج، لتشكل فسيفساء من الأصوات التي نجت من المحو، لإيمانها بأن للكلمة وزناً يعادل الوجود.
لا تقتصر مقاربة طالقاني على الجغرافيا السورية، بل تنفتح على تجارب عالمية مماثلة، وضعت الكلمة في مواجهة القمع، مثل سيرة نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وبهروز بوجاني في إيران، لتكشف من خلالها خصوصية التجربة السورية المتسمة بوحشية رهيبة، جعلت من كل كلمة تُكتب من داخلها أو عنها عملاً بطولياً أخلاقياً ومقاوماً.
لا يقتصر الكتاب على الأدب المكتوب، بل يتسع ليشمل الصورة، مثل سينما الطوارئ التي دشنتها مجموعة أبو نضارة، وأفلام محمد ملص، التي روت فظائع الاعتقال، وسجلت محاولات النجاة.
تتقصى المؤلفة تحولات هذا الأدب عبر ستة فصول مترابطة، مستنيرة بما يُعرف بـ "التحول التجريبي" في الأدب العربي الحديث، لتبرز كيف تجاوز أدب السجون السوري حدود التوثيق المباشر، واتجه نحو أفق أدبي وجداني يتفاعل مع الأسئلة الجمالية والوجودية العميقة.
يناقش الفصل الأول تصنيف أدب السجون كنوع أدبي، ويعده ضرورة سياسية تضمن استمرار حضور صوت المعتقل في الحقل الأدبي والثقافي، بينما يركز الفصل الثاني على مفهومي الاعتراف والهشاشة كما ظهرا في حادثة أطفال درعا عام 2011، بوصفها لحظة مفصلية في علاقة الكلمة بالعدالة.
يتوسع الفصل الثالث في تحليل تمثيلات التعذيب في الأدب وتقارير حقوق الإنسان، مسلطاً الضوء على الفرق بين السرد الحميمي واللغة التقريرية، فيما يدرس الفصل الرابع الزمان والمكان في النصوص، من خلال نماذج مثل مذكرات هبة الدباغ وأعمال فرج بيرقدار. أما الفصل الخامس فيخصّص سجن تدمر بوصفه رمزاً للمأساة، ويحلل توجّه بعض النصوص نحو السريالية، باعتبارها وسيلة للهروب من اللغة المعتادة، ولتمثيل ما لا يمكن قوله، ويعبر الفصل الأخير من السجن إلى المنفى، حيث تختلط الكتابة الذاتية بالخيال ما بعد الحداثي، وتستمر المقاومة عبر أشكال سردية جديدة.
في النهاية، لا يقدم هذا الكتاب مادة توثيقية فحسب، بل يفتح باباً للتفكير في الكلمة بوصفها ملاذاً ووسيلة مقاومة، إنه شهادة على قدرة الأدب على إعادة الاعتبار لمن غُيّبوا قسراً، ومحاولة لإعادة رسم صورة الإنسان وهو ينهض من ركام السجن والخذلان، بالكلمات أولاً، وبالذاكرة التي ترفض أن تُمحى.
بهذا المعنى، يشكل "أدب السجون السوري: بويطيقا حقوق الإنسان" أكثر من قراءة في نصوص… إنه إنصات حيّ إلى ما تبقّى من أصوات.
في قلب أدب السجون السوري، تتجاور التجارب وتتكامل بين روايةٍ كتبت على حواف الجرح، وقصيدةٍ نُظمت بيد مكبّلة، فلم يكن الأدب هنا ترفاً، بل خلاص ومحاولات حثيثة لإعادة بناء الإنسان بعد أن تهشّم تحت سياط القهر، وفيما يلي أبرز العناوين التي تناولت أدب السجون:
- مصطفى خليفة، القوقعة: يوميات متلصص، دار الآداب، بيروت، 2008.
- براء السراج، من تدمر إلى هارفارد، منشورات المتوسط، ميلانو، 2020.
- هبة الدباغ، خمس دقائق وحسب، المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، 2012.
- فرج بيرقدار، حمامة مطلقة الجناحين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2006.
- حسيبة عبد الرحمن، قيد من حرير، دار الأهالي، دمشق، 1995.
- عماد شيحة، روايات كتبها خلال فترة الاعتقال (غير منشورة بالكامل).
- سميرة خليل، نصوص سردية منشورة في منابر أدبية.
- غسان الجباعي، نصوص مسرحية تتناول تجربة الاعتقال.
- وديع إسمندر، نص مسرحي يعبّر عن تجربة السجن.
- ياسين الحاج صالح، بالخلاص يا شباب: 16 عامًا في السجون السورية، رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت، 2012.