سناك سوري _ محمد العمر
تعيش “سوريا” اليوم واحدة من أكثر المراحل المفصلية في تاريخها الحديث وربما أكثرها صعوبة وخطورة وتأثيراً على مستقبلها على المدى القريب والبعيد.
البلاد التي هشّمها صراع طال 14 عاماً، تجد نفسها اليوم أمام تحدٍّ حقيقي في استرجاع كيانها الموحّد، بعد أن نخر الانقسام ليس في جغرافيتها فحسب، بل في مجتمعاتها التي باعدت بينها ظروف الحرب ولم تجد من يمدّ الجسور بينها ويرأبُ صدعاً حرصَ كثيرون على توسعه.
كيف ضاعت الهوية السورية منذ الاستقلال؟
منذ استقلال “سوريا” عن الانتداب الفرنسي، لم تتم الإجابة عن سؤال في “سوريا”، لم تبنَ الملامح الحقيقية للهوية الوطنية السورية، والسورية فقط. وبالعودة إلى ما قبل الانتداب بقليل، كان طموح السوريين عام 1920 بعد انهيار السلطنة العثمانية، أن ينالوا استقلالهم على أساس “سوريا الكبرى” أي بلاد الشام، واعتبار سكان “سوريا ولبنان والأردن وفلسطين” مواطنين من بلد واحد اسمه “سوريا”، وهو الأمر الذي أجمع عليه المؤتمر التأسيسي في ذلك الحين ووضع دستوراً للمملكة السورية بقيادة الملك “فيصل”.
لكن ذلك الطموح لم يجد طريقه إلى أرض الواقع، لا سيما بعد مؤتمر “سان ريمو” في نيسان 1920 الذي يعدّ المحطة الحقيقية لتقسيم المنطقة وليس اتفاقية “سايكس- بيكو” كما كانت تصرّ المناهج الرسمية أن تعلّمنا.
بعد ذلك بربع قرن تقريباً، خرج البريطانيون والفرنسيون من المنطقة، تاركين خلفهم خطوطاً مرسومة على خرائط سرعان ما تحوّلت إلى حدود رسمية وقيام دولٍ استقلت كلٌّ منها بذاتها عن الأخرى. وفي “سوريا”، لم تكتمل فرحة جلاء الفرنسيين عام 1947حتى جاءت نكبة “فلسطين” وقيام كيان الاحتلال عام 1948، سواءً بسبب احتلال الصهاينة لأرض فلسطين التي كانت تسمى “سوريا الجنوبية”، أو بسبب التهديد المباشر الذي يمثّله هذا الاحتلال على الأراضي السورية بحدودها الحالية، وهو الأمر الذي تحقّق بالفعل حين احتل الصهاينة أرض “الجولان” عام 1967.
خلال فترة الانقلابات العسكرية، لم يكترث حكّام البلاد المتعاقبين -وبعضهم لم يسعفه الوقت ليفعل- بالعمل على بناء هوية وطنية سورية جامعة، تستوعب تنوّع الشعب السوري وتستثمر في غنى هذا التنوع ليكون نقطة قوة السوريين لا نقطة ضعفهم وجحر التفرقة الذي سيلدغون منه مراراً.
شعبوية الوحدة العربية
بل كان الأسهل على الحكّام المضيَّ في الشعارات الشعبوية آنذاك، حين كانت أحلام “الوحدة العربية” تدغدغ وجدان السوريين، وهو ما مضى به ضباط من الجيش بينهم بعثيون ليقدّموا البلاد هدية للرئيس المصري “جمال عبد الناصر” بصلاحيات مطلقة مقابل تحقيق الوحدة.
وبالطبع كان الاتكاء على اللحظات العاطفية لمداعبة أحلام الجماهير خطيئة ستظهر فداحتها خلال سنوات الوحدة الثلاث، حين ضاق السوريون ذرعاً بسياسات “عبد الناصر” وقتله للحياة السياسية وتأسيسه لأجهزة القمع التي ستدوم طويلاً وتغيّر تاريخ البلاد، فوقع الانفصال عام 1961، وسرعان ما استغلّ “البعث” الفرصة ونفّذ انقلاب آذار 1963 ليستولي على الحكم.
واصل “البعث” سياسة بيع الشعارات العاطفية، والدعوة لـ”الوحدة العربية” في الخطابات، والترويج لشعار “الأمة العربية الواحدة”، وأن “سوريا” هي جزء من أمة عربية كبيرة وأن هذه الأمة كانت واحدة يوماً ما وستعود إلى وحدتها، دون أن يأتي في أدبياته على ذكر الخصوصية السورية، وعن تنوّع أطياف السوريين حتى قومياً، فهم ليسوا عرباً بالكامل ففيهم الكرد والآشور والأرمن والتركمان .. إلخ، فضلاً عن تنوّع أديانهم ومذاهبهم وعاداتهم وجذورهم.
الهوية السورية في عهد البعث
طوال حكم “البعث”، استمرت سردية “الأمة العربية الواحدة” مرتكزاً أساسياً لنظرية النظام في منح نفسه الشرعية، رغم كل ما فعله “الأسد الأب وابنه” من معارك في مواجهة العرب أنفسهم “حرب لبنان، قصف مخيم تل الزعتر الفلسطيني، الخلاف مع صدام حسين، مهاجمة دول الخليج كلامياً .. إلخ”.
أما في الداخل، فقد روّج نظام “الأسد” لتحريم الحديث عن خصوصية السوريين بداعي محاربة “الطائفية” ليخنق أي تعبير عن الهويات الثانوية، ويتحوّل الحديث عن “اللوحة الفسيفسائية” إلى محطّ سخرية في طريقة إخراجه التي تمحو كل خصائص المكوّنات لتصهرها في كتلةٍ واحدة على أنها “وحدة وطنية” صنعها رأس النظام ولولاه لتلاشى المجتمع.
وفي طريق “البعث” إلى فرض “عروبته” على السوريين، راح يحارب القوميات السورية الأخرى، وفي مقدمتهم السوريون الكرد حيث وصل به الأمر إلى حرمانهم من جنسية بلدهم وجعلهم “مكتومي قيد”، ونفى عنهم “سوريتهم” قائلاً بأنهم مهاجرون قادمون من “العراق” و”تركيا” وليسوا سوريين.
وطوال 54 عاماً من حكم “الأسدين” كان الهمّ الرئيسي للنظام ألّا تقوم قائمة للهوية السورية الوطنية الجامعة، مقابل ترسيخ هوية واحدة فقط تختصر بعبارة “سوريا الأسد”، حيث تنسب البلاد إلى اسم الحاكم وكأنها من صنيعته، في وقتٍ يسمّى فيه “حافظ الأسد” “القائد المؤسس” في محاولة لتصوير تاريخ “سوريا” على أنه بدأ من الصفر لحظة وصول “الأسد الأب” إلى السلطة وقبله لم يكن هناك “سوريا”، وعليه لم يكن صعباً أو مستغرباً أن يرث “بشار” الحكم عن أبيه في “الجمهورية”، فهي ملكية عائلية خاصة تتوارث العائلة حكمها وتديرها كما تدير أملاكها.
البحث عن الهوية الوطنية السورية الضائعة
لا شكّ أن سقوط نظام “الأسد” يوم 8 كانون الأول 2024 هو الحدث الأهم في تاريخ “سوريا” منذ نحو 6 عقود، وهو الفرصة الأهم لبناء هوية وطنية سورية جامعة، لكنها فرصة غير قابلة للتفويت فمن الصعب إعادة إتاحتها مجدداً إن ضاعت في متاهات الهويات الثانوية والمصالح الخاصة للأطراف المتصارعة. وعلى الرغم من أن الإدارة الجديدة التي تسلّمت زمام السلطة بعد سقوط النظام، قرّرت من طرف واحد شكل الحكم وهوية البلاد في الإعلان الدستوري، واعتبرت ذلك إجراءً مؤقتاً ريثما تتم كتابة دستور دائم يخضع لتصويت السوريين، فإن سؤال «أيُّ سوريا نريد؟» لا زال مطروحاً وبشدّة.
من الناحية الجغرافية، نجد أن الانقسام لا يزال قائماً، مع بقاء مناطق الجزيرة السورية خارج سيطرة الحكومة المركزية، وتحت حكم “الإدارة الذاتية”، على الرغم من توقيع اتفاق مبدأي بين الرئيس “أحمد الشرع” وقائد “قسد” “مظلوم عبدي” تمهيداً لعملية توحيد ما، لكن الطرفين يختلفان على صيغة هذا التوحيد. أما أمنياً وعسكرياً، فإن الوجود الأجنبي في “سوريا” لا يزال قائماً متمثّلاً بقوات تركية في الشمال وأمريكية في الشرق وروسية في الغرب، يضاف إليها الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، فضلاً عن استمرار تعدّد القوى العسكرية المحلية واختلاف مرجعياتها بما في ذلك وجود مقاتلين أجانب لا يزال ملفهم معقّداً بين المطالبات بإبعادهم وبين تجنيسهم ومنحهم مناصب قيادية كما فعلت السلطة الجديدة.
الانقسام الأهم والأعمق ربما يتمثّل في المجتمع، فبعد 14 عاماً من الانقسام والتباعد لم يعد من السهل إعادة التوحيد والدمج خاصةً في غياب مظلة جامعة وهي “الهوية الوطنية” التي يتفق عليها جميع السوريين، وبينما يحمّل البعض النظام البائد مسؤولية هذا الغياب، فإن الفرصة اليوم بيد الفاعلين في مرحلة ما بعد سقوط النظام، لصياغة تعريفٍ جامع للبلاد واعتراف بتنوّعها وخصائص مكوّناتها واحترام اختلاف الآراء والمعتقدات بين الأطياف السورية وصولاً إلى مرحلة بناء السردية السورية الحقيقية وكتابة تاريخ البلاد من أجل تلمّس مستقبلها.