بقلم: د. سلمان ريا
بعد كل هذا الركام، وبعد كل الدم الذي سال، لا نحتاج إلى أكثر من لحظة صدق. لحظة نُقرّ فيها بأنّ سوريا لا تحتاج إلى بطل جديد، بل إلى عقد اجتماعي جديد. عقد يعيد توزيع السلطة، لا تمركزها؛ عقد يحمي المجتمع من الدولة، لا الدولة من المجتمع.
كثيرون يتحدثون اليوم عن “المرحلة الانتقالية”، وكأنها ممر فنيّ محايد، بينما الحقيقة أنها أخطر مراحل تكوين الدولة. فيها تُزرع البذور التي ستنبت لاحقاً: إما دولة مؤسسات، أو نسخة محسّنة من الاستبداد، بوجهٍ جديد وبدلة أنيقة.
إن أخطر ما قد نواجهه اليوم ليس غياب رئيس، بل وهم “الرئيس المنقذ”. هذا الذي يُرفع على أكتاف الخوف لا على أعمدة القانون. هذا الذي يُشرّع بالمراسيم، ويعيّن القضاة، ويؤجل الانتخابات بذريعة الضرورات الوطنية. في لحظة، تتحول الثورة إلى تفويض مفتوح، وتتحول المعارضة إلى واجهة شكلية، وتُبنى شبكات مصالح من أمراء الحرب وتجار الإعمار، تلتهم ما تبقّى من مقدرات البلاد.
هكذا، باسم الأمن، تُخنق الحريات. وباسم الإعمار، تُنهب الثروات. وباسم الاستقرار، يُجتثّ أي صوت نقدي، ولو كان من داخل المؤسسات نفسها.
لذلك، فإن أي دستور جديد ينبغي أن يُبنى على قناعة واحدة: أن السلطة لا تُجمّع، بل تُوزّع. وأن البرلمان، مهما بدا ضعيفاً، هو الشريان الوحيد للحياة السياسية. وأن القضاء، حتى وإن تعثّر، هو الضمان الوحيد للعدالة. وأن الإعلام، وإن علا صوته، هو مرآة المجتمع لا عدوه.
يجب أن لا نمنح أي شخص أو جهة “تفويضاً مطلقاً”. فالطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الوطنية (الحسنة). والدولة التي تنشأ من رحم الثورة يجب أن لا تُدار كغنيمة، ولا أن تُسلَّم لمخلص، بل تُبنى لبنةً لبنة، عبر مؤسسات يُراقب بعضها بعضاً، ويُحاسب فيها الجميع وفق القانون.
وحتى لا يتحول الحلم إلى كابوس، علينا أن نغلق الباب نهائياً أمام فكرة “التمديد”، و “الاستثناء”، و”الظروف الخاصة”. فالمرحلة الانتقالية لا تُقاس بالشعارات ولا بالمهرجانات السياسية، بل بعدد الصلاحيات التي يتم توزيعها أفقيًا بين السلطات، وعموديًا بين المركز والأطراف.
وإذا قال أحدهم إن الوقت ليس مناسبًا للحديث عن الديمقراطية، أو إن “الأمن القومي” يقتضي تأجيل الانتخابات، فليتذكّر أننا جربنا هذا الخطاب لعقود، ولم نحصد سوى الخراب.
من أجل كل أم فقدت ولدها، وكل سجين لا يزال ينتظر محاكمة عادلة، وكل طفل حلم بمقعد دراسي و مستقبل أفضل، يجب أن نكون على قدر اللحظة. لا نحتاج بطلاً يعتلي المنصات، بل دولة تحتضن الجميع. لا نحتاج إلى صوت عالٍ واحد، بل إلى أصوات كثيرة، تُعبّر وتُحاسب وتُقرّر.
لقد آن أوان الدولة. (موقع اخبار سوريا الوطن-2)