عاد أحمد عسيلي إلى سوريا للمرة الثانية منذ سقوط النظام، بعد أكثر من عقد قضاه في المنفى. خلال أيام قضاها بين طرطوس وريفها، لاحظ عسيلي فجوة عميقة بين تصورات السوريين في الخارج عن الوطن، وبين واقع السوريين في الداخل. لم يعد الأمر مجرد اختلاف في تفاصيل الحياة، بل في كيفية إدراك الواقع نفسه.
منذ بداية الثورة في عام 2011، ظهر حديث عن هذا الانفصال بين الداخل والخارج. في ذلك الوقت، بدت وسائل التواصل الاجتماعي كجسر يربط بين التجربتين، بل منحت الخارج سلطة مزدوجة: سلطة التعبير والتأويل. في ظل نظام يمنع حرية التعبير، أصبح الخارج هو المراسل والمحلل والضمير، يقود السرد وينطق باسم الداخل.
مع مرور الوقت واتساع المسافة الجغرافية والنفسية، ظهرت فروقات جوهرية. ظل الخارج يعيش في زمن الثورة وشعاراتها، بينما انزلق الداخل إلى واقع أكثر مادية: الكهرباء، الخبز، الخوف. يتحدث الخارج بلغة النضال، بينما يتحدث الداخل بلغة البقاء. لم يعد الاختلاف في الخطاب فقط، بل في البنية النفسية التي تنتجه.
بدت المشكلة كأزمة لسوريي الخارج الذين فقدوا القدرة على التأثير في الصراع، مما أدى إلى أزمة في المشروعية والهدف. عالم الاجتماع آلان تورين تحدث عن هذه المجتمعات التي تستبدل مشروعها المفقود بـ "هوية الجرح". الألم لا يعاش فقط، بل يعاد إنتاجه ليصبح أساسًا للانتماء. ويرى المعالج النفسي الفرنسي بيير جانِيه أن الصدمة النفسية تتحول إلى نسيج في الذات، يعاد سردها كأمان.
هذا يفسر تمسك البعض بخطاب 2011، ليس فقط كإيمان، بل كأرض لا يمكن التخلي عنها دون فقدان الذات. يردد الكثيرون في الخارج عبارات مثل: "النظام لم يسقط"، "الأسد بوجه جديد"، "كلهم خونة"، "لا شيء تغير". هذه العبارات لا تحلل الواقع، بل تجمدّه وتحافظ على المعنى القديم.
في هذا السياق، كتب ياسين الحاج صالح جملة دقيقة: "لقد أمضيت نصف قرن وأنا أدفع بقوة بابًا مغلقًا بإحكام، وحين وقع الباب، وقعت معه". الذات المعارِضة لم تكن مجرد موقف سياسي، بل تكوينًا كاملاً، ووجودًا مشروطًا بعدو. مع سقوط العدو، ينهار المعنى وينكشف الفراغ.
هذا الانهيار يصيب الأفراد والجماعات. أصبح العديد من السوريين في الخارج أسرى لموقعهم السياسي، ليس فقط عن قناعة، بل لأن التخلي عنه يعني التخلي عن دورهم كمعارضين، ثوار، ضحايا، أو ضمائر. تحولت المعارضة لدى البعض إلى مهنة، بامتيازاتها ومؤسساتها ودخلها. هنا، يصبح الرأي وظيفة، والتخلي عن الخطاب سقوطًا من موقع.
الأخطر أن هذا يقدم للناس كرأي ناتج عن فهم منطقي أو موقف أخلاقي. الكثير من المواطنين، في الداخل والخارج، لا يدركون تعقيدات هذا المشهد، ويرون ببساطة ناشطًا يتحدث باسمهم، فيظنونه حياديًا، بينما هو يتحدث من موقعه، وخطابه ناتج عن أزمات وجودية ومهنية.
في المقابل، الداخل ليس دائمًا أكثر "حقيقة". الناس يصرحون أو يكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي بما لا يؤمنون به، إرضاءً للمحيط أو خوفًا من فقدان الروابط. يظهر الكثيرون الولاء أو المعارضة وفقًا لانتماءاتهم العائلية أو الطائفية، أو نتيجة لارتباطاتهم المهنية أو المجتمعية. هذا ليس كذبًا، بل نوع من الانتماء القلق. الرأي لا يقال دائمًا بحثًا عن الحقيقة، بل خوفًا من النبذ أو رغبة في الانتماء.
يسمي التحليل النفسي هذه الحالات تماهيًا دفاعيًا، حيث يتبنى الإنسان موقفًا لا يعكس ذاته، بل يلبي حاجة في البقاء ضمن الجماعة أو الهروب من قلق الحرية.
لذلك، عند قراءة مقال أو المشاركة في نقاش، يجب ألا نأخذ الرأي كمرآة للحقيقة، بل كنافذة على الذات القائلة. الرأي ليس دائمًا حياديًا، بل مشحون بما هو نفسي، اجتماعي، سياسي، طبقي، ومكاني. لا بد من تمارين دائمة على القراءة التحليلية، لرؤية جذور الخطاب، وإدراك أن الانحياز يفكك بالوعي.
هذا الواقع ليس مريحًا، لكنه حقيقي. إذا أردنا أن نبقى قادرين على الفهم والحوار في مشهد يزداد تعقيدًا، فعلينا أن نقرأ، ونستمع، ونتحدث، كما لو كنا نحلل أنفسنا.