الخميس, 27 نوفمبر 2025 10:49 PM

سوريا في مرمى الاستخبارات: كيف فاقمت حرب الظل التحديات الأمنية بعد الأسد؟

سوريا في مرمى الاستخبارات: كيف فاقمت حرب الظل التحديات الأمنية بعد الأسد؟

مع سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا حقبة جديدة مليئة بالتحديات الأمنية المعقدة وغير المسبوقة. لم يعد المشهد الأمني مقتصرًا على ديناميكيات الصراع الداخلي التقليدية، بل اتسع ليشمل اختراقات استخباراتية وعمليات سرية أثرت بشكل كبير على الوضع العام في البلاد. هذه الاختراقات، وخاصة تلك المنسوبة للموساد الإسرائيلي، تسلط الضوء على نقاط ضعف أمنية عميقة وتداعيات محتملة على مستقبل سوريا.

لغز عملية استعادة أرشيف إيلي كوهين

أحد أبرز الأحداث الأمنية التي أعقبت سقوط نظام الأسد هو إعلان الموساد الإسرائيلي عن استعادة ما يقرب من 2500 وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية تعود للجاسوس الشهير إيلي كوهين. أثارت هذه العملية السرية جدلاً واسعًا وتساؤلات حول كيفية تمكن الموساد من اختراق الأرشيف السوري الذي كان يُعتقد أنه محصّن. تباينت التحليلات والتكهنات حول كيفية وصول الموساد إلى هذه الوثائق الحساسة، ومن بين هذه التحليلات:

  • البيع من قبل النظام السابق: من المرجح أن النظام السابق قد يكون باع هذه الوثائق للموساد قبل سقوطه مقابل مكاسب في صفقات سرية. يشير هذا السيناريو إلى استغلال حالة الفوضى وعدم الاستقرار.
  • ضعف أمني بعد السقوط: هناك احتمال أن الإعلان عن استعادة الوثائق بعد سقوط النظام كان محاولة لتوظيف الملف في توجيه ضربة سياسية للنظام الجديد، مستغلين الفوضى الأمنية. وقد يكون أحد ضباط مخابرات النظام المخلوع قد باع الأرشيف للإسرائيليين في ظل هذه الفوضى.
  • دور “دولة حليفة”: أكد الموساد أنه نفذ العملية بالتعاون مع “جهاز أمني حليف”، مما يثير تساؤلات حول هوية هذه الدولة ودورها في تسهيل عملية الاختراق.
  • هروب مسؤولي الأمن وعمليات الحماية المشبوهة: بالإضافة إلى قضية أرشيف كوهين، شهدت الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد هروبًا جماعيًا لكبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين، بعضهم متهم بجرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد ثبت تورط الموساد في حماية بعضهم. كما أظهرت التحقيقات أن العديد من كبار الشخصيات الأمنية والعسكرية في نظام الأسد تمكنوا من الفرار بعد انهيار الحكومة. تشير بعض التقارير إلى سرقة مبالغ مالية من مقرات المخابرات العامة ولجوء آخرين إلى سفارات أجنبية أو الحصول على جوازات سفر بأسماء مزورة أو شراء جنسيات أجنبية لتأمين هروبهم. تعمل السلطات الجديدة في دمشق بالتعاون مع محققين دوليين ومنظمات حقوقية سورية على تعقب هؤلاء ومحاسبتهم.
  • شبكات التجسس الوليدة: يمكن القول إن الاختراق الأخطر على مستوى سوريا، والذي سيكون له عواقب وخيمة إذا لم يتم معالجته بحكمة وهدوء وبحرفية واستراتيجية أمنية مطلقة بعيدًا عن المحسوبيات والانتماءات، هو عشرات الخلايا الاستخباراتية التي أسسها الموساد على مدى 14 عامًا من الثورة. هؤلاء الأفراد والجماعات، الذين كان أغلبهم في مؤسسات الثورة كالمجلس الوطني والائتلاف وممثليهم في الدول التي كان لهذه المؤسسات تمثيل رسمي فيها، ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الإغاثية وغيرها، لا يقتصر خطرهم على شخوصهم فقط، بل على العشرات من الخلايا التي ربطوها بالموساد. قدم هؤلاء تسهيلات كبيرة للقاءات جمعت بعض قادة الائتلاف مع الموساد في وادي عربه، كما أسسوا شبكات تجسس انخرط بعضها في تنظيم داعش وما سمي الجيش الوطني، والآن هم داخل وزارة الدفاع السورية. هؤلاء أصبحوا خطرًا حقيقيًا على الدولة السورية الوليدة وعلى الشعب السوري إذا لم يتم معالجة ملفاتهم من الآن.

مؤشرات وعواقب التدهور الأمني

إن الاختراقات الأمنية المتتالية، سواء كانت المتعلقة بوثائق كوهين أو بحماية المسؤولين المتهمين بجرائم حرب أو من خلال الخلايا التي أنشأها الموساد من أفراد داخل مؤسسات الثورة، تشير إلى تدهور كبير في الأجهزة الأمنية السورية بعد سقوط نظام الأسد. يمكن تحديد مؤشرات هذا التدهور الأمني وعواقبه على الأمن الداخلي والخارجي بما يلي:

  • فقدان الثقة: تثير هذه الاختراقات شكوكًا كبيرة حول قدرة الأجهزة الأمنية السورية الجديدة على حماية المعلومات الحساسة وملاحقة المتورطين في الجرائم.
  • الفوضى والتحديات الجديدة: بعد الإطاحة بنظام الأسد، واجهت سوريا الجديدة واقعًا أمنيًا معقدًا، حيث كان جهاز الأمن العام (الذي أعيد تسميته لاحقًا ليصبح “الأمن الداخلي”) أمام تحديات جسيمة لتحقيق الأمن وبناء علاقة جديدة مع الشارع السوري في ظل إرث ثقيل من انعدام الثقة.
  • العمليات الإسرائيلية: استغلت إسرائيل الفوضى لتعزيز عملياتها. فبالإضافة إلى استعادة وثائق كوهين، صعد الجيش الإسرائيلي من وجوده العسكري في محافظة القنيطرة السورية بعد سقوط نظام الأسد، وهذا أحدث مشكلة امنية متدحرجة.
  • الاختراقات الأمنية وشبكات التجسس: يمكن الجزم بأن أخطر ما يهدد الاستقرار الأمني والمجتمعي هو الحجم الكبير لشبكات التجسس التي أنشأتها إسرائيل وغيرها من أجهزة الاستخبارات العربية والإقليمية والدولية خلال الثلاثة عشرة عامًا داخل جسم الثورة على مختلف مستوياته. وقد يكون أخطر تداعيات هذه الشبكات المحاصصة بين هذه الدول في تنصيب عملائها في مراكز ومناصب حساسة في الدولة، مما قد يُحدث خرقا عميقا في الامن القومي السوري لايمكن السيطرة عليه.

تأثير سنوات الثورة الطويلة والفوضى

إن استمرار الثورة السورية لأكثر من عقد أدى إلى انهيار البنية التحتية الأمنية والاقتصادية للبلاد. وبعد سقوط نظام الأسد، تزايدت التحديات الأمنية بسبب تشرذم الفصائل المسلحة وتواجد قوات أجنبية وتداعيات النزاعات الإقليمية والعدد غير المعروف من شبكات التجسس التي ارتبطت بأجهزة مخابرات إقليمية ودولية وعربية. الأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد انهارت بالكامل في عام 2024، واستدعت هيئة تحرير الشام جهاز الأمن العام من إدلب للحفاظ على الأمن والنظام في المدن المحررة. هذا الجهاز يحتاج إلى الكثير من التدريب والخبرة الأمنية للتعامل مع المستجدات التي طرأت على مهامه التي كان ينفذها داخل إدلب.

تحليل مقارن للاختراقات الأمنية قبل وبعد سقوط النظام

لطالما كانت سوريا قبل سقوط نظام الأسد بيئة معقدة للعمليات الاستخباراتية. ومع ذلك، فإن الطبيعة والمدى والتداعيات لهذه الاختراقات قد تغيرت بشكل كبير بعد كانون الأول 2024. يمكن تقديم مقارنة تحليلية لهذا التبدل من جهة طبيعة الاختراقات الاستخباراتية قبل سقوط الأسد، حيث ركزت على التجسس التقليدي وجمع المعلومات وعمليات التأثير السياسي. أجهزة الأمن السورية كانت تعتبر قوية ومحكمة مما جعل الاختراق صعبًا لكن ليس مستحيلًا (مثال: إيلي كوهين في الستينيات).

أما بعد سقوط الأسد، تنوعت الاختراقات لتشمل استعادة وثائق حساسة وحماية مسؤولين متهمين بجرائم حرب واستغلال الفوضى لعمليات عسكرية مباشرة بسبب ضعف أجهزة الأمن السورية الذي جعلها أكثر عرضة للاختراق.

من ناحية أهداف الموساد، كان يركز على جمع المعلومات عن القدرات العسكرية السورية والنوايا السياسية وتطوير برامج الأسلحة ومحاولات للتأثير على السياسات الداخلية عبر العملاء. أما بعد سقوط الأسد، استعاد الموساد الأرشيفات الهامة (مثل وثائق كوهين)، كما قام بحماية أصول استخباراتية سابقة (مثل خالد الحلبي) واستغلال ضعف السيطرة الحدودية لتنفيذ عمليات عسكرية وزيادة النفوذ.

أما من ناحية الأمن الداخلي السوري، فقبل سقوط الأسد كان النظام أمني استبدادي قوي يعتمد على المراقبة الشاملة والحواجز الأمنية المنتشرة وقمع أي معارضة له، حيث أعطي هذا النظام انطباعًا بالتحكم المحكم لكنه كان يعتمد على الخوف. أما بعد سقوط نظام الأسد، فقد حدثت فوضى أمنية واسعة وانهيار بالأجهزة الأمنية السابقة وظهور قوى أمنية جديدة (مثل الأمن الداخلي) وصعوبة في بسط السيطرة الكاملة على جميع المناطق واستمرار حوادث الاختطاف والاعتقال.

من ناحية التعاون الدولي في مكافحة الجريمة، كان قبل سقوط نظام الأسد محدودًا جدًا وغالبًا ما يكون سريًا ومعقدًا بسبب العلاقات المتوترة مع العديد من الدول خاصة الغربية. أما بعد سقوط نظام الأسد، نرى انفتاح أكبر على التعاون مع منظمات دولية ومحققين دوليين لملاحقة المسؤولين المتهمين بجرائم حرب.

من ناحية التداعيات على السيادة الوطنية، كانت الاعتداءات الإسرائيلية تتم بشكل متقطع ومحدود مع إنكار سوري ومحدودية القدرة على الرد. أما بعد سقوط نظام الأسد، نرى تآكل كبير للسيادة مع ازدياد العمليات الأجنبية سواء من الموساد أو غيره من القوى الإقليمية والدولية التي تستغل الفراغ الأمني.

إن المشهد الأمني في سوريا بعد سقوط نظام الأسد يعكس تحولًا جذريًا في طبيعة التحديات والاختراقات. من استعادة الموساد لوثائق إيلي كوهين السرية في عملية معقدة أثارت جدلًا واسعًا حول مدى ضعف تحصين الأرشيف الحكومي، إلى الكشف عن هروب كبار المسؤولين الأمنيين المتهمين بجرائم حرب وتورط الموساد في حماية بعضهم، تتجلى صورة واضحة للفوضى والتفكك الأمني. هذه الأحداث لا تسلط الضوء فقط على قدرات العمليات الاستخباراتية الأجنبية في بيئة مضطربة، بل تكشف أيضًا عن تحديات عميقة تواجه السلطات الجديدة في سوريا في سعيها لإعادة بناء دولة مستقرة وآمنة تمر من خلال تحصين أجهزة الدولة على مختلف مشاربها خاصة جهاز الأمن الداخلي والخارجي. إن التداعيات طويلة الأجل لهذه الاختراقات ستشكل مستقبل البلاد خاصة في ظل مساعي الرئيس أحمد الشرع لقيادة المرحلة الانتقالية وسط بيئة إقليمية ودولية معقدة إلى أبعد الحدود.

مشاركة المقال: