عنب بلدي – كريستينا الشماس
"لدي عادة صباحية عندما أفتتح بقاليتي الصغيرة، هي تفقد دفتر الديون القديم، أمسك القلم وأعدّ الصفوف، اسم هنا، مبلغ هناك، تاريخ قديم يذكرني بأنه حان الوقت لأن أسترد ديوني"، بهذه الكلمات بدأ محمد عمري، صاحب "بقالية" صغيرة للمواد الغذائية في منطقة الطبالة بدمشق، حديثه لعنب بلدي.
يروي محمد أن دفتر الديون في "بقاليته" شاهد على حال أكثر من 30 عائلة تأخذ احتياجاتها بـ"الدَّين"، لتعود مع بداية كل شهر لتسدد ما عليها، واصفًا هذا الحال بـ"الأمر الواقع"، نظرًا إلى الوضع المادي "المزري" لكل عائلة، بحسب تعبيره.
دفتر الديون عند محمد ليس حالة فريدة في مناطق دمشق، بل لا تكاد "بقالية" في سوريا إلا تملك دفترًا يحمل في طياته أكثر من مجرد ملاحظة عن اسم يقابله رقم يجب سداده، بل هو اعتراف يومي بأن دخل العائلة السورية لا يكفي، وأن الحاجات الأساسية تنتظر الدفع لاحقًا، أو ربما لا تُسد أبدًا.
دفتر الديون.. مرآة للعجز
تتشابه دوافع أصحاب المحال والورشات رغم اختلاف مهنهم، فالجميع يعمل تحت ضغط دخل لا يغطي تكاليف يوم واحد، وتكشف شهاداتهم لعنب بلدي، عن واقع معيشي هش، يجعل الدَّين الوسيلة الوحيدة لاستمرار البيع والشراء.
تحدث أيمن النجار، صاحب "بقالية" في منطقة الطبالة بدمشق، أن الزبائن يطلبون منه تسجيل مشترياتهم لأن رواتبهم تنفد خلال أيام، وامتناعه عن بيع البضائع بالدَّين يعني خسارة زبائن يعتمدون عليه يوميًا.
أشار أيمن إلى أن دفتره امتلأ خلال أشهر قليلة، وأن الديون المتراكمة المنتظر سدادها، صارت عبئًا عليه يدرك قيمتها عندما يريد شراء بضاعة جديدة، "أشعر بأنني مضطر لمجاملة الأهالي حتى لا يبقى البيت بلا خبز".
طارق العلبي، وهو صاحب "بقالية"، يقبل بالدَّين لأنه يخشى أن ينصرف الزبائن إلى محال أخرى، وقال إن البضائع ترتفع أسعارها كل فترة، بينما تُسجل الديون بسعر اليوم، ما يترك فرقًا يتحمله من رأس ماله المحدود.
بعض العائلات من زبائن طارق تسدد مرة كل أسبوع، بينما يسدد القسم الأكبر منهم مرة كل شهر.
في حين يمتنع سامر تركماني، بائع خضار على "بسطة" في منطقة الطبالة، عن البيع بالدَّين، لأن الأسعار تتغير بين الصباح والمساء، بحسب قوله، وأي دَين يُسجل بسعر قديم يعني خسارة مباشرة لا يمكن تعويضها.
وجرب سامر أن يبيع بالدَّين سابقًا، وكانت النتيجة خسارة معظم رأس ماله، لذلك يعتمد البيع النقدي حصرًا، معتبرًا أن "الخضار سلعة لا تنتظر الراتب".
ويضطر أحمد عيسى، صاحب ورشة نجارة في منطقة الدويلعة، إلى تدوين مستحقاته لأن الزبائن لا يستطيعون دفع كامل التكلفة عند طلب الأبواب والخزائن، موضحًا أن سعر الخشب ارتفع أكثر من مرة خلال الفترة نفسها التي ينتظر فيها السداد.
وقال أحمد، إن الديون تجعله عاجزًا عن شراء خشب جديد، وإن خسارة فارق السعر تقع عليه وحده، لكنه يقبل بها لأن قلة العمل والطلب تجعله ينتظر سداد الزبائن لمستحقاته المالية.
حرج اجتماعي
لا يبدو دفتر الديون شأنًا بسيطًا، بل يحمل تأثيرات نفسية واجتماعية عند "المديونين"، فتسجيل الاسم في دفتر الديون يعني أن الشخص قد دخل ضمن صنف "الحرج الاجتماعي" بين أهالي الحي، وما إن يصبح اسمه ضمن قائمة "الدَّين" حتى تصبح المكالمات أو الزيارات من صاحب الدكان نوعًا من الحرج.
يرى طارق العلبي، صاحب "بقالية"، أن دفتر الديون بمثابة سجل اجتماعي، فمن يظل مدينًا لأشهر ويصبح اسمه "مكررًا"، يتجنبه بعض البائعين أو يطالبونه بشكل أكثر صراحة، أو يعرض عليه بعضهم التخفيض مقابل السداد الفوري.
"إن لم يسدد الزبون، فقد أضطر لتقليص الكمية في المرة المقبلة، أو أمتنع عن إدانته مجددًا، القصة أصبحت كلمة ثقة يجب أن يكون صاحبها قدّها"، قال طارق.
ومع كل دفعة جزئية تُسدد، تخلف رابطة بين البائع والمشتري، ليست فقط "خدمة وسداد"، وإنما "ثقة وتأخير وتعاطف" أو "امتعاض".
وتبقى العائلة التي تكرر التأخير محكومة بأن يكون اسمها "مديونًا دائمًا" ما يسهم في خلق شعور بـ"العار" أو "الدونية"، رغم أن سبب العجز ناتج عن عوامل اقتصادية خارجة عن إرادتها.
الراتب "لا حول له ولا قوة"
ظاهرة "الدَّين" التي يعتمد عليها معظم السوريين، تعكس عجز الرواتب الحكومية عن سداد احتياجات العائلات ذات الدخل المحدود.
ورغم زيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين بنسبة 200%، التي أصدرها الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في حزيران الماضي، لا يكفي الحد الأدنى للأجور المحدد بـ750 ألف ليرة سورية سوى يومين ونصف من حاجة الأسرة السورية للاستهلاك بالحد الأدنى، بحسب بيانات "مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة".
وزاد الحد الأدنى العام للأجور والحد الأدنى لأجور المهن العمال القطاع الخاص والتعاوني والمشترك غير المشمولة بأحكام القانون الأساسي للعاملين بالدولة رقم "50" لعام 2004 وتعديلاته ليصبح 750 ألف ليرة سورية شهريًا، بحسب المرسوم.
وقبل القرار كان الحد الأدنى للأجور في سوريا يعادل نحو 279 ألف سورية.
والحال لا يختلف كثيرًا في القطاع الخاص، فبحسب رائد معوض، يعمل في مصنع للألمنيوم بدمشق، فإن الراتب الذي يتقاضاه والبالغ مليونين ونصف مليون ليرة، لا يكفي حتى لنسبة 50% من مصروف عائلته المكونة من خمسة أفراد.
"أتجنب أن أعتمد على الدَّين كي لا أدخل في بوابة الحرج وأضيف إلى همومي الحياتية همًا قد لا أحتمله، ربما حالي أفضل من بقية العائلات التي ترى في الدَّين مدخلًا تلتجئ له حين يكون الراتب عاجزًا عن تأمين أبسط الاحتياجات"، قال رائد.
أمين سر جمعية حماية المستهلك والخبير الاقتصادي، عبد الرزاق حبزة، قال في حديث سابق لعنب بلدي، إن المواطن بات بالكاد يؤمّن حاجاته الغذائية، فموضوع الغذاء أصبح عبئًا يصعب تأمينه أصلًا، مضيفًا أن الدخل الشهري للمواطن يجب أن يتراوح بين خمسة وسبعة ملايين ليرة، حتى يتمكن فقط من البقاء على قيد الحياة.
90% تحت خط الفقر
لا يمكن فصل انتشار دفتر الديون في المحال عن الصورة الاقتصادية الأوسع التي ترسمها تقارير دولية وخبراء محليون.
فالعجز الذي يعيشه الفرد داخل أسرته ليس سوى انعكاس مصغر لعجز اقتصادي ومالي أعمق تعيشه البلاد منذ سنوات، الأمر الذي دفع السوريين إلى استبدال "الدفع عند الشراء" بنظام مؤجل يقوم على الثقة أكثر مما يقوم على القدرة.
في 20 من شباط الماضي، أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تقريرًا، قدّر فيه أن سوريا بحاجة إلى أكثر من 50 عامًا على الأقل، لاستعادة المستويات الاقتصادية للبلاد في مرحلة ما قبل الحرب في حال حققت نموًا قويًا.
وبحسب التقرير، فإن معدل الفقر ارتفع من 33% قبل الحرب إلى 90% حاليًا، بينما بلغت نسبة الفقر المدقع 66%.
وشكك الخبير الاقتصادي عامر شهدا في تصريح سابق لعنب بلدي، بنسبة الفقر المدقع بأنها 66%، فالشعب السوري يعاني الفقر المدقع بنسبة 90% بالاستناد إلى مقاييس برنامج الغذاء العالمي.
وتساءل شهدا: هل يمكن للأمم المتحدة أن تطرح المؤشرات الاقتصادية التي اعتمدت عليها في تقريرها الذي قررت فيه أن سوريا ستستعيد اقتصادها عام 2080؟
وأوضح الخبير الاقتصادي، أنه لا مؤشرات اقتصادية صحيحة في سوريا، وهذه الأرقام التي طرحها برنامج الأمم المتحدة هي مؤشر لدفع سوريا للوقوع بأحضان صندوق النقد الدولي، مضيفًا، "يحاولون قتل روح المبادرة في سوريا، ويحاولون قتل روح السوريين ببناء بلدهم".
وطالب الخبير برنامج الأمم المتحدة بإعلان المؤشرات الاقتصادية الحقيقية التي اعتمد عليها التقرير الصادر، وعدد السكان السوريين الحقيقي في الداخل والخارج، الذي استندوا إليه في تحديد نسبة العاطلين عن العمل ونسبة الفقر.
التقرير الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، قال إن 9 من كل 10 أشخاص في سوريا يعيشون في فقر، وإن واحدًا من كل أربعة عاطل عن العمل.
ولفت إلى أن 75% من السكان يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، تشمل الرعاية الصحية والتعليم والوظائف والأمن الغذائي والمياه والطاقة والمأوى.
وأشار إلى أن إنتاج الطاقة في البلاد انخفض بنسبة 80%، وتضررت 70% من محطات توليد الكهرباء، ما أدى إلى انخفاض قدرة الشبكة الوطنية بنسبة 75%.
تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أشار إلى أن ما بين 40 و50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و15 عامًا لا يذهبون إلى المدرسة، وأنه دُمر أو تضرر بشكل شديد نحو ثلث الوحدات السكنية خلال سنوات النزاع، ما ترك 5.7 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى دعم في مجال الإيواء.