الإثنين, 24 نوفمبر 2025 12:25 AM

سوريا: هل تغلب الاستثمارات غياب العقد الاجتماعي؟

سوريا: هل تغلب الاستثمارات غياب العقد الاجتماعي؟

ترى لمى قنوت أن السلطة الانتقالية في سوريا اختارت الاقتصاد مدخلاً للاستقرار، ساعيةً لرفع العقوبات وجذب الاستثمارات لتحقيق مكاسب مالية سريعة وإنعاش الاقتصاد عبر مشاريع عقارية وسياحية وبنية تحتية وتأجير مرافق حيوية. إلا أن هذه الخطوات، بحسب المقال، أعادت إنتاج نظام الريع واتسمت بالغموض والمركزية الشديدة وغياب الشفافية والرقابة، كما خلت من رؤية اقتصادية شاملة وإطار ناظم للاستثمار وخطة لإعادة الإعمار، وغابت عنها التشاركية والحوار مع المجتمعات المحلية، ما أدى إلى فصل السياسة عن الاقتصاد.

وتوضح الكاتبة أن السلطة الانتقالية غيبت عمدًا أهمية بناء عقد اجتماعي، وهي سمة ملازمة للأنظمة التسلطية التي تستعيض عن الانفتاح السياسي بانفتاح اقتصادي مُهَنْدَس يخدم شبكات زبائنية. ففي الأنظمة الريعية أو في سياق سلطات ما بعد النزاع، تؤدي عقود الاستثمار المختلفة إلى زبائنية سياسية من خلال السيطرة الاقتصادية على موارد عامة، كعقود الامتياز لتشغيل أو استغلال مورد عام أو بنى تحتية لفترة محدودة أو طويلة مقابل رسوم أو حصة من الأرباح، كالعقود السابقة التي منحها نظام الأسد للروس والإيرانيين مقابل دعم سياسي وعسكري.

وتضيف الكاتبة أن السلطة الحالية أعادت حكم الغلبة وهندسة الفساد، رغم رفعها شعار مكافحته، عبر اقتصاد موازٍ قائم على الولاء وتوزيع "المغانم"، وحضرت الزبائنية في مختلف المجالات. وبالتركيز على عدد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، فقد افتقرت إلى الشفافية والمنافسة، وغاب عن العقود المبرمة اتباع الخطوات القانونية الرئيسة أصولًا قبل إبرامها، وقد أدى غياب المعايير إلى التوقيع مع شركات تبين لاحقًا أن إحداها كانت وهمية، وعُرفت بمشروع "أبراج الفراشات"، وأخرى لا تملك الخبرة والكفاءة والملاءة المالية لتنفيذ الاتفاق، كالعقد الموقع مع شركة إيطالية غير معروفة لتنفيذ مشروع أبراج دمشق.

وتشير الكاتبة إلى أن تجاهل المشاورات مع المجتمعات المحلية ومصالحها وأولوياتها، جعل اصطدامها مع السلطة أمرًا حتميًا، كما حصل مع ظهور الحملة الإعلامية لمشروع تطوير عقاري يدعى "بوليفارد حمص" في مطلع حزيران الماضي، فنظم الأهالي وقفة احتجاج ضده في حي القرابيص، وحملوا لافتات كتب عليها: "لا للبوليفارد، لا للتهجير"، وقارنوا المشروع بمشروع "حلم حمص" الذي وُضع أيام النظام السابق، واعترض عليه الأهالي ونظموا مظاهرات احتجاجية ضده.

وترى الكاتبة أن تركيز السلطة الانتقالية على الاستثمارات ذات العوائد المالية السريعة دون التخطيط لإعادة الإعمار وبناء مؤسسات رقابية، والتأسيس لآليات "جبر ضرر تحولي لتحقيق عدالة انتقالية أكثر إنصافًا" بتشاركية نشطة وفعالة مع المجتمع المدني، وبضمنه مجتمعات الضحايا واللاجئين والنازحين، نساء ورجالًا، وتشجيع الاستثمار وفق رؤية منهجية قائمة على الاحتياجات، قد يؤدي إلى إبرام صفقات تنزع الملكية أو بتعويضات مجحفة وشكلية، تهمش أصحاب الحقوق الفعليين، وتحول السكان إلى طبقة مستهلكة بدلًا من مالكي وسائل إنتاج، أو تقوض حقهم في السكن، وتؤدي إلى زوال سريع لتراث المدن ونسيجها الاجتماعي.

وتستعرض الكاتبة حجج مؤيدي البحث عن استثمارات أجنبية ذات عوائد مالية سريعة، قبل التأسيس لعقد اجتماعي وخطة لإعادة الإعمار، منها أنها وسيلة لتحريك عجلة الاقتصاد وتخفيف البطالة وامتصاص الإحباط الاجتماعي. وترد على تلك الحجج بالإشارة إلى تجربة جورجيا في عام 2003، التي أدت إلى انتعاش اقتصادي قبل الإصلاح السياسي، لكنها أدت أيضًا إلى انتقال الأصول العامة للدولة إلى فئات قريبة من السلطة وشبكات للمتنفذين، واستبعاد المجتمعات الريفية عن النمو، وتركز الاستثمارات في الخدمات والقطاعات المربحة، وإهمال قطاعي الصناعة والزراعة، وتكريس الفجوات الطبقية، وانخفاض الإنفاق الاجتماعي واتساع نطاق الاقتصاد غير المنظم، وتفكيك أو إضعاف النقابات العمالية.

وتختتم الكاتبة بالإشارة إلى أن تقديم الانفتاح الاقتصادي على العقد الاجتماعي وشكلية الحوار الوطني والانغلاق السياسي مع البنية الاستبدادية للدولة التي كرسها نظام الأسدين، أضيف إليها البنية الأيديولوجية للسلطة، كبنية فصائلية سلفية، أنتج بنية تسلطية مركزية زبائنية، حصرت الصلاحيات في تركيبة عائلية تمركزت بيد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وأخويه، حيث يهيمن حازم الشرع على "هيئة الاستثمار السورية" ويعيد هندسة الاقتصاد ويعقد صفقات بشكل سري مع مجرمين ارتكبوا أو دعموا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم اقتصادية، ويتولى ماهر الشرع الأمين العام لرئاسة الجمهورية. أما الرجل الثاني في السلطة الانتقالية، أسعد الشيباني، وزير الخارجية، فقد هيمن على الشؤون السياسية الداخلية وتنظيمها عبر "الأمانة العامة للشؤون السياسية" وتسلطت على أصول حزب "البعث" وأحزاب الجبهة الوطنية المنحلة خارج الموازنة العامة، وحرم دستوريًا مجلس الشعب المُعيّن من مساءلة السلطة التنفيذية، وحصر القرار النقدي والرقابة المالية بتعيين محمد عمر قديد رئيسًا للجهاز المركزي للرقابة المالية، وهو خباز سابق، ومعروف سابقًا باسم "أبو عبد الرحمن الزربة"، الذراع الاقتصادية لـ"هيئة تحرير الشام" في إدلب، وأسس الإدارة العامة لمؤسسة النقد التابعة لـ"الهيئة"، والمسؤولة عن تجارة العملات، وكان له دور أيضًا في شركة "وتد للبترول" التي احتكرت تجارة المحروقات في إدلب، ثم أنشأ مؤسسة "الوسيط" لتحويل الأموال وتصريف العملات، ويطلق عليه حاليًا بـ"حاكم الظل" في المصرف المركزي. ولا يقتصر الأمر على تعيينات تعلي الولاء على الكفاءة، بل امتدت إلى تقويض سيادة القانون وشكلية الحوكمة وعدم احترام فصل السلطات، كالمرسوم رقم "113" القاضي بإحداث مؤسسة ذات طابع اقتصادي أطلق عليها "الصندوق السيادي"، برئاسة رئيس الجمهورية الانتقالي، وهو الضامن لحوكمة الصندوق وشفافيته. إن الفساد بأبعاده المتنوعة، لا يشجع على إعادة الإعمار، حتى مع رفع العقوبات، كما أن جذب الاستثمارات والمشاريع دون عقد اجتماعي ورؤية سياسية اقتصادية اجتماعية تشاركية شفافة، وعادلة معاصرة، وإصلاح هيكلي، ومؤسسات رقابية، يجعل أجهزة الدولة أداة لتفصيل الصفقات، وتوزيع المناصب والمكاسب "كغنائم" لحلفاء السلطة والقوى الإقليمية والدولية التي ما زالت تتحكم بالملف السوري، ما يُعمِّق الاستحواذ الفئوي للموارد بدلًا من توزيعها العادل، ويكرس سيطرة الشبكات الزبائنية، ويقوي تحالفات "النخبة" المهيمنة على حساب العدالة الاجتماعية والمكانية والبيئية، وربما، يُخفض مستويات العنف المباشر أو غير المباشر بين الجماعات المتنازعة أو المتنافسة وقوى الأمر الواقع، لكنه يعمق أشكالًا بنيوية منه كإفقار المهمشين والعنف غير المباشر المؤسسي.

مشاركة المقال: