يرى عبد الله عقرباوي أن أحداث 11 سبتمبر 2001 كانت نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية واستراتيجيتها الدولية، حيث ارتبطت بها عبارة "ما بعد 11 سبتمبر" للدلالة على رغبة الولايات المتحدة في إعادة تشكيل العالم. وبالمثل، يشير الكاتب إلى أن "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر يمثل لحظة فارقة في تاريخ السياسة الإقليمية والدولية، بل ويتجاوز في تأثيره أي لحظة سابقة في المنطقة منذ عقود.
ففي ذلك الصباح، تلقت المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها ضربة قوية في قاعدتها الأمامية بالمنطقة، على يد حركة مقاومة وتحرر وطني. ومنذ ذلك الحين، أصبح الحديث عن "ما بعد 7 أكتوبر" هو السائد على كافة المستويات. ورغم حصار غزة وصغر مساحتها، إلا أن صمود قادتها وشعبها جعلها رمزًا للتصدي للنظام الأميركي الغربي، وحققت أهدافًا استراتيجية عجز عنها آخرون.
لقد وضعت غزة الكيان الصهيوني في موقف دولي لم يكن يتوقعه قادته، حيث يواجه تحولات شعبية ودولية ورسمية تدينه وتنزع الشرعية عنه. هذا التحول في الرأي العام الدولي يضرب السردية التأسيسية للكيان في مقتل، حيث قام على مظلومية اليهود وأراد إنشاء "مستعمرة" تحميهم، ولكنه ينتمي فكريًا واستراتيجيًا إلى الغرب. فلم تعد سردية المظلومية قائمة، ولا "المستعمرة الآمنة" باقية، ولا يمكن تصدير الانتماء الفكري إلى الغرب الليبرالي في ظل حرب الإبادة.
ويؤكد الكاتب أن غالبية آثار وتداعيات هذه التحولات لم تظهر بعد، وأن "الطوفان" انتصر في حرب السردية والمشروعية، حيث تمتلئ الشوارع العالمية بالمحتجين على الكيان وجرائمه والمتواطئين معه. هذا الطوفان العالمي لا يمكن حصره أو التنبؤ بمداه، فهو أكبر من كل الأدوات الاستخبارية والأمنية.
إن الذين يملؤون الشوارع والجامعات والمنصات الأكاديمية والإعلامية، يعبرون عن اتجاهات عميقة في مجتمعاتهم، وغدًا سيكونون في البرلمانات ومجالس الشعوب وفي الحكومات المحلية والمركزية وفي المنظمات الدولية. وهذا تحدٍّ على هذا الكيان أن يواجهه في قادم السنوات.
يشير تحوّل مواقف الأجيال الجديدة داخل الدول الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة، إلى تغيير كبير. فوفق استطلاع Pew Research Center من مارس 2024، فإن البالغين دون سن 30 عامًا أكثر انتقادًا لما تفعله إسرائيل في غزة مقارنةً بالفئات الأكبر سناً. كما أظهر استطلاع Harvard–Harris في أغسطس 2025 أن نحو 60% من جيل Z (من 18 إلى 24 عامًا) في الولايات المتحدة يميلون إلى دعم الفلسطينيين أو حماس في سياق الصراع.
ويرى الكاتب أن هذا الانتصار لـ"طوفان الأقصى" ستكون عواقبه وخيمةً على الكيان الصهيوني الذي راهن دائماً على دعم الحكومات وإمبراطوريات الإعلام والشركات الكبرى المالكة لمحرّكات البحث وأدوات التواصل الحديث.
ويضيف أنه بعد عامين من الطوفان، يمكن وصف ما يحصل بالكثير من الأوصاف، ولكن الوصف الأساسي الذي لا يستطيع أحد أن يصف به ما يحدث في غزة أن هذا الكيان انتصر وأن المقاومة انهزمت. لقد دفع "الطوفان" أجيالاً للتحرر من عملية تأطير وأدلجة منظمة استمرت لعقود، وبات السؤال الأكثر تداولاً: لماذا إسرائيل؟ ماذا تعني معاداة السامية؟ ولماذا يحقّ لي أن أنتقد كل شيء ولا يحق لي أن أنتقد "إسرائيل"؟
ويشير الكاتب إلى أننا نشهد إدراكاً عميقاً في الشرق والغرب لحقيقة هذا الكيان وليس فقط تضامناً مع مظلومية الفلسطينيين الإنسانية بل وحقّهم في التحرير. هذه التحولات تشير إلى أن سردية الدعم التلقائي للكيان الصهيوني بدأت تتصدّع في الوعي الغربي.
كما كشف "طوفان الأقصى" موقف المنظومة الرسمية العربية بشكل غير مسبوق، ويرصد المراقبون الدوليون حجم الغليان الذي أثاره "الطوفان" في الشارع العربي على هذه الحكومات. وقد أسهم "الطوفان" في أن تتعلّم هذه الشعوب أيضاً من تجربتها السابقة وأن يكون الاصطفاف هذه المرة اصطفافاً واضحاً ضد المستعمر الخارجي.
وعلى صعيد انتصارات "الطوفان" التي حقّقها بتعميق الخلاف داخل جمهور الكيان الصهيوني، فإنّ الدفعة التي حصل عليها اليمين المتطرف تحت مظلة الحرب، ستكون لها تداعياتها الداخلية أيضاً. فالبيئة التي سبقت "الطوفان" كانت تهدف لأن تتم تصفية القضية الفلسطينية وقتل جذوة المقاومة عند الشعب الفلسطيني وتجاوز حقوق الفلسطينيين ودفن مشروعية وشرعية القضية الفلسطينية عند الشعوب.
بينما جاء "الطوفان" ليخلط الأوراق ويقلب الطاولة على الجميع ويفرض القضية الفلسطينية على كل طاولة وفي كل ساحة وفي كل شارع وفي كل عاصمة وأمام كل حكومة، وأن تصبح القضية الفلسطينية نقاشاً داخلياً في كل الدول، وأن تصبح نماذج المقاومة التي قدّمها أبطال "الطوفان" نماذج عالمية للمقاومة والصمود. لقد أثار نقاشاً فكرياً عميقاً عند طبقات واسعة من الشعوب أعادت النظر والاعتبار للقضية الفلسطينية.
ويختتم الكاتب بالقول إن كل التضحيات التي قُدّمت في الطوفان هي تضحيات عزيزة ومستحقّة، ويتحمل مسؤوليتها أصحابها في أنهم قدّموا نموذجاً للصمود والصبر والثبات والإيمان لم تقدّمه الأمّة العربية منذ سنوات كما قدّمه أبطال غزة وأبطال جنوب لبنان وأبطال اليمن. وكل جريمة وقعت في قطاع غزة يتحمّل مسؤوليتها اليوم، سياسياً وقانونياً وأخلاقياً، الكيان وداعموه.
ويضيف أن دفع ثمن هذه الجرائم بدأ من غزة بيد المقاومين هناك، وأيضاً يدفع الكيان الثمن في كل زاوية من زوايا هذا العالم وباعتراف أكبر داعمي هذا الكيان دونالد ترامب وإدارته الحالية، الذي يعترف في كل مرة يتطرق فيها إلى موضوع الحرب على غزة بأن إسرائيل تدفع ثمناً باهظاً.
ويؤكد الكاتب أنه بعد عامين من الطوفان المجيد، يمكن أن يوصف ما يحصل بالكثير من الأوصاف، ولكنّ الوصف الأساسي الذي لا يستطيع أحد أن يصف به ما يحدث في غزة أن هذا الكيان انتصر وأن المقاومة انهزمت. هذا لم يحدث. والمعركة ما زالت مستمرة وتتخذ صنوفاً متعددة. ومحاولات إدارة ترامب الأخيرة تقديم مبادرات ملتحفة بمجموعة الدول العربية والإسلامية التي ساندت هذه الخطوات هي دليل على عجز دولة الكيان على حسم هذه المعركة أولاً، وعجز رموز إدارة ترامب على إدارة الأزمة.
ويرى أن هذا الاصطفاف الأميركي مع الدول العربية والإسلامية التي ساندت خطة ترامب إذا ما تمّت مواجهته من قبل المقاومة الفلسطينية واستطاعت أن تحتوي هذا الضغط وأن تصمد في وجهه له ما بعده لصالح «الطوفان» وتعميق إنجازاته.
ويختتم بالقول إنّ «طوفان الأقصى» لم يكن مواجهة عسكرية فحسب، بل كان تحوّلاً في الوعي الجمعي، يدفع العالم لإعادة رسم خرائط التحالفات والشرعيات. من رحم الألم والتضحية، وُلد وعيٌ جديد، يُعيد ترتيب مواقف الشعوب والقوى العالمية. هذا هو «عالم ما بعد الطوفان».
* كاتب وباحث فلسطيني
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار