نبيه البرجي
هكذا "ديبلوماسية العقرب"، كما رآها دين أتشيسون، وزير الخارجية في عهد هاري ترومان، وصاحب مصطلح "الحرب الباردة"، "اضرب وفاوض"، على الرأس أم على الخاصرة؟ يفترض أن تزعزع أعصاب الطرف الآخر، وهو قبالتك على الطاولة أو قبالتك في الخندق . أما نظرية الوزير "الاسرائيلي" السابق ييغال آلون فهي "فاوض عدوك وهو في قبره"، أو "ضعه على كومة الحطب، ولتكن الرقصة الأخيرة حوله".
ديبلوماسية العقرب أم ديبلوماسية الوحوش؟ لا مجال البتة لديلبوماسية الملائكة. هذا رأي المستشار النمسوي الشهير كليمنت ميترنيخ، نجم مؤتمر فيينا (1815 ) مع الفرنسي شارل تاليران، "عبثًا نحاول تقليد الملائكة على الطاولة، وحيث ما توضع غالبًا الشوكة والسكين".
لطالما وصفت ديبلوماسية أو استراتيجية دونالد ترامب، وهنا عقلية الأبراج العالية بـ "ديبلوماسية الكلاب" أو "استراتيجية الكلاب". ضربة هنا وضربة هناك، دون أي ترابط أوركسترالي بين الضربات. الضربة الأوكرانية للقواعد الجوية الروسية بالنتائج الكارثية، حتى على المستوى السيكولوجي، تذكّر الكثيرين بنظرية جورج كينان حول "الاحتواء" (1946)، أي الضربات الصاعقة على الرأس، ما يعني اقفال كل الأبواب أمام العدو باستثناء الباب الديبلوماسي، الذي يفترض أن يدخل منه بعظام محطمة… غريب أن الروس رفضوا اتهام الأميركيين بأنهم وراء الضربة، وبعدما كان الرئيس الأميركي يتوقع أن يتعامل مع فلاديمير بوتين تعامله مع القطط التي في منزل ابنته ايفانكا. انه القيصر، قيصر روسيا المقدسة، لا قطة ايفانكا التي سبق وقلنا انها لقوة تأثيرها، تتجول بالكعب العالي في رأس أبيها، وقد تكون ابتعدت عنه في ولايته الثانية لأنها مثل زوجها، اليهودي الأرثوذكسي جاردي كوشنر، تعشق ديبلوماسية القوة لا ديبلوماسية الطرق بالقفازات الحريرية، على الصدور…
بوتين يريد اعادة أوكرانيا الى الحضن الروسي. العلاقات بين الدولتين علاقات "بيولوجية". الأمبراطورية الروسية انطلقت في القرن التاسع، من كييف بقيادة الأمير فلاديمير. وها أن فلاديمير الآخر (فلاديمير الأكبر) يحاول احياء الأمبارطورية، التي تفككت في مطلع التسعينات من القرن الماضي. لا فولوديمير زيلينسكي ولا أي شخص آخر على رأس السلطة في أوكرانيا، الا بموافقة الكرملين. اذاً، ترامب يعرف كيف يضرب، في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. هو يريد أن تكون أوكرانيا أو ما تبقى منها أميركية، بعدما انتزع منها عنوة اتفاقية المعادن النادرة. القيصر أخذ حصته من أوكرانيا، على أن تبقى خارج حلف الأطلسي. ولكن هل صحيح أن بوتين الذي لاحظ مدى كراهية القادة الأوروبيين له، يخشى من ظهور نابليون بونابرت الآخر أو أدولف هتلر الآخر في القارة العجوز. لا، لآ، أوروبا لم تعد تنتج الآلهة أو أنصاف الآلهة. تصريحات ترامب توحي بأنها بالكاد تنتج أنصاف الرجال. مثلما يفترض أن يذهب زيلينسكي بعربة أميركية الى اسطنبول، يفترض ببوتين أن يذهب بعربة أميركية، بعدما كنا قد ذكرنا منذ بضعة أشهر، أن رجب طيب أردوغان الذي يبحث عن أي باب يدخل منه الى التاريخ، يحاول أن يجمع الرئسين الروسي والأوكراني على ضفاف الدردنيل. رجل البيت الأبيض يراهن على وقوف روسيا الى جانبه، في محاولة احتواء الصين.
هذا رهان عبثي. الروس غالباً ما يعتمدون في صياغة استراتيجيتهم على "الجنرال زمن"، وهذا ما أخذ به الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. بعد سنوات قليلة يغادر ترامب البيت الأبيض، ويبقى شي جين بينغ. المفكر الروسي الجيوسياسي ألكسندر دوغين كتب عن "ذاك الذي كنا نرى فيه العدو الأبدي، وقد تحول الى حليف أبدي". كثيراً ما حذر الديبلوماسيون الأميركيون نظراءهم الروس من "التنين الذي، بالايقاع الأسطوري لتطوره الاقتصادي، وربما بعد حين العسكري، لا بد أن يبتلعكم"… لا شك أن الضربة الأوكرانية كشفت الكثير من نقاط الضعف الروسية. لا سبيل أمام البيت الأبيض سوى "ديبلوماسية العقرب". ترامب يريد أن يغسل يديه من الدوامة الأوكرانية، ليدخل الى عمق الأزمة الشرق أوسطية، وهي الحلقة الأخيرة التي تمكنه من التفرغ لمواجهة الصين، بمعنى آخر الانتهاء من اطفاء النيران في الشرق الأوروبي وفي الغرب الآسيوي. لطالما قيل أن ترامب تعامل مع نتنياهو تعامله مع زيلينسكي. هنا "الصبي الأميركي"، وهناك "الصبي الأميركي". بطبيعة الحال، وريث بطرس الأكبر، وفلاديمير الرهيب، لا يمكن أن يكون على شاكلة سلفه بوريس يلتسين برميل الفودكا، وهو يتدحرج في قاعة القديسة كاترين، ما دام بتلك المساحة الهائلة وبتلك الترسانة النووية التي تضمن بقاء روسيا كدولة. جورج كينان قال"مشكلة روسيا أنها تحاول دائماً أن تثبت أنها موجودة".
هنا يتدخل سؤال الديبلوماسي الأميركي المخضرم ريشارد هاس اذا كانت حرب غزة قد حطمت الفلسطينيين أم حطمت "الاسرائيليين"؟ الاجابة واضحة، بعد 20 شهرًا من الدوران داخل الخراب، أي داخل المتاهة. ارتجاجات مروعة في رأس بنيامين نتنياهو!! (اخبار سوريا الوطن ١-الديار)