الثلاثاء, 24 يونيو 2025 12:35 AM

غزوان قرنفل: هل يتجنب السوريون الانحدار مجددًا نحو الهاوية؟

غزوان قرنفل: هل يتجنب السوريون الانحدار مجددًا نحو الهاوية؟

يتساءل غزوان قرنفل: هل يعقل أن يتجه شعب بكامل إرادته ووعيه نحو الهاوية وهو يراها أمامه؟ وهل يصدق السوريون أن هذا الشعب هو نحن؟ إنها حقًا من أعاجيب الحياة والتاريخ، وأعاجيب السوري الذي يصر على تصفير عداد حياته والبدء من جديد، ليجرب مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة تخذله التجربة ويفشل في صناعة ما هو موجود أصلًا.

لماذا نفشل؟ لأننا لا نراكم المعرفة والتجارب، ونصر على البدء من الصفر بنفس الأدوات والرؤى والأفكار، ثم نتوقع نتائج مختلفة! نصر على أن ننطح الجدار بدلًا من الالتفاف حوله. نكتب نفس الكلام بصيغ أخرى، بعبارات مهذبة، ولكن القارئ يتذمر من أننا نبث اليأس والإحباط بين الناس المبتهجين بالنصر، والذين لا يريدون سماع الحقائق العارية التي تصفع وجوهنا.

القارئ ليس غير عابئ، بل ربما يعتبر أنه حقق نصره وانتهى الأمر، وتلك مصيبة أخرى. بل صار معظم القراء جلادين، ما إن يقرؤوا نقدًا للسلطة الجديدة حتى يجلدوا الكاتب وأهله وسلالته، بل ويسلخوا جلد المنصة التي أتاحت له صفحاتها، ويطعنوا في وطنية الجميع ويصنفوهم كعملاء وأعداء للوطن. أيعقل أن هؤلاء كانوا جزءًا من ثورة شعب طلب الحرية والعدل وسيادة القانون؟ وهل ما يحصل أمامهم ينسجم مع قيم العدل والحرية؟

معظم القراء مهتم بقراءة ما تكتب، لا بحثًا عن معرفة، بل ليضبطك متلبسًا بجريمة انتقاد السلطة الجديدة أو تعرية سياساتها، أو الانحياز للمطالب المشروعة لأقلية، وهو ما يؤكد خيانتك "لسنيّتك" واصطفافك مع بقايا الفلول أو مع الأقليات "الخائنة" التي تتوسل دعمًا خارجيًا ضد السلطة الجديدة التي "حررت" لنا سوريا!

وعلى سيرة "التحرير" الذي يصفعنا به المطبلون للسلطة الجديدة، فإنه لزامًا علينا أن نذكر ببعض الحقائق، وهي أن واقعة "التحرير" بذاتها لم تكن إلا ثمرة لنضال الكثير من المخلصين السوريين المدني والعسكري والحقوقي، وليس شيئًا صنعته قوة "التحرير" بذاتها دون تلك العوامل. عمليات الانشقاق عن سلطة النظام هشمت شرعية النظام، والمواجهات العسكرية مع جيش النظام أخرجت مناطق واسعة عن سلطة النظام، والمظاهرات والحراك المدني طعن شعبية النظام المزعومة في مقتل، والحراك الحقوقي وتوثيق الجرائم والانتهاكات ومقاضاة الكثير من رموز وأعوان النظام في المحاكم الأوروبية أضعف إمكانية إعادة تأهيل النظام، وصور "قيصر" أجبرت الدول الكبرى على فرض عقوبات قاسية على النظام وأضعفت قدراته المالية كثيرًا وحدت من إمكانية استعادته السيطرة على البلاد، كل هذه عوامل لا يمكن تجاهلها في تقويض قدرة النظام على الاستمرار أكثر لتأتي الضربة القاضية بعد ذلك من "هيئة تحرير الشام" وبعض التشكيلات العسكرية الأخرى المتحالفة معها، ودون أن ننسى أبدًا أن عملية "7 أكتوبر" وما تبعها من حرب على غزة و"حزب الله" والميليشيات الإيرانية في سوريا من أهم العوامل التي جعلت قرار إسقاط النظام، والسماح لـ "هيئة تحرير الشام" بفعل ذلك، ممكنًا وبتوافق إسرائيلي وأمريكي وتركي وروسي، وإلا ما كنا لنشاهد أرتال سيارات المقاتلين تمشي مسافة 400 كم دون أن يمسسها سوء أو يطولها قصف من طائرة.

لذلك لا يمكن ولا يجوز لأي جهة أن تزعم أو تحتكر فعل التحرير والانتصار وتنسبه خالصًا لنفسها وترميه في وجوه السوريين، لتقول لهم: يكفي أننا حررناكم من سلطة استباحت حياتكم ومدنكم وأنتم قاعدون، فحق لنا أن نحكم الدولة وننفرد بذلك لأن "من يحرر يقرر".

خلاصة القول، إن السوريين وقد مضى على سقوط النظام أكثر من نصف عام، قد سقط معظمهم في الامتحان الوطني حتى الآن، رغم أنه لم يفت الأوان بعد، ولا يزال ممكنًا جبر ما انكسر، ولا يزال ممكنًا جسر الهوة بين مكونات الشعب السوري، ولا يزال ممكنًا إفساح المجال للشراكة الوطنية، ولا يزال ممكنًا أن نتحاور بالكلام لا بالرصاص، ولا يزال ممكنًا أن نبقى سوريين دون أن نبحث عن ملاذ آمن في طوائفنا ومذاهبنا وقبائلنا ومناطقنا، فهذه كلها ملاذات حماية مؤقتة لا ملاذات أمان دائم، وعلينا جميعًا، والسلطة تحديدًا في المقدمة، أن نحافظ معًا على تلك الممكنات ولا نحولها إلى مستحيلات.

جميعنا معنيون ومهتمون بأن نخرج بلدنا من القاع الذي وصلت إليه، ومن مقتضيات ذلك أن يشعر السوريون جميعًا أن هذا البلد وتلك الدولة ملكهم جميعًا، لهم فيها حقوق أصيلة واحدة ومتماثلة، وأنهم مواطنون فيها لا رعايا، وبالتالي شركاء في رسم ملامح دولتهم وتحديد شكل سلطتهم، مشاركون فيها لا غرماء، وترجمة ذلك لا تكون إلا بمكاشفة وحوار وطني واسع يميط اللثام عن الهواجس ويستجيب لموجبات تبديدها، وبإعادة صياغة المحددات الدستورية لشكل السلطة وحدودها وآليات ممارستها وإفساح المجال والآليات اللازمة للمشاركة فيها، أما خلاف ذلك والإصرار على التفرد واحتكار السلطة ومركزيتها الصارمة وتوسل الشرعية والاعتراف من الخارج وتجاهل وإهمال شركاء الداخل، فهذا لا يفضي للخروج من حالة الاستعصاء الوطني، ولا يجعل السلطة انعكاسًا لإرادة السوريين جميعًا بل تعبيرًا فظًا عن إرادة الخارج الذي تتوسل شرعيتها منه فحسب، وهو خيار من يسير بكل بلاهة وغباء إلى الهاوية.

مشاركة المقال: